عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

الأربعاء، ديسمبر 05، 2012

صباح جديد في لشبونة




هناك صباح جديد
هناك أطفال يلعبون في الأسفل
هناك قرميد غسله الشتاء
هناك نافذة على الطابق العاشر
هناك طريق سريع
وموظفون يذهبون للعمل باكرًا
ومدينة تستفيق
وهناك امرأة تجلس في غرفة أحد الفنادق تطل على كل هذا من خلال الحائط الزجاجي وتتنفس

زارت هذه المدينة من قبل، تحاول أن تتذكر لكنها لا تستطيع. حتى اللغة التي لا تفهمها تسمعها لأول مرة. أصناف الأكل، رائحة الشوارع، وجوه أهل المدينة وأطفالهم – كلهم يظهرون عليها لأول مرة. تريد أن تمضي وقتًا أطول هنا، تقول لنفسها، ثم تستذكر رغبتها في العيش في كل المدن مرةّ واحدة. تحسّ بنخزة في قلبها، تظنّ أنها أدمنت الترحال. وحين تحاول طرد تلك الفكرة يبدو لها أنها ربّما لم تنضج بعد وأنها لا زالت ترغب بكل شيء كما الأطفال. تهاتف حبيبها، تقول له لننتقل هنا وهو في سرّه يضحك، فكم من مدينة طلبت منه الانتقال إليها  حتى الآن!

إذن المدينة تستفيق، وهي تستفيق على حرّيتها معها. المدينة تغسل وجهها وهي تنسج الذكريات الجديدة معها. المدينة تتلون بنور الحياة وهي يغزوها العشق من كل جانب. النشوة تعود إليها شيئًا فشيئًا، والحرية تنتشل كل العفن في الداخل، الدروب ينقشع عنها الضباب والبدايات الجديدة تفتح أبوابها لها.

هي قرّرت وللمرة الأولى أن تؤمن حقًا بالبدايات الجديدة، وحين فعلت أرسلتها عشتار لهذه المدينة من جديد لتعقد معها الصلح، وتبدأ وحدها قصة امرأة عاشقة ومدينة.

البدايات الجديدة هي منزلها اليوم وليس الرجال أو الترحال أو الأغراض العزيزة. الشمس تُجلي الغيوم، المدينة يعلو صوتها، هي تستفيق، تضع الكحل وأحمر الشفاه الغامق، وترتدي البدايات الجديدة روحًا لها.

فرح برقاوي
لشبونة، البرتغال
5 ديسمبر 2012
(غرفة في فندق الماريوت على الطابق العاشر/ 1015)


الجمعة، سبتمبر 28، 2012

أبقى أنا واقفةً، محاولةً، محاولةً مرة أخرى


غرفتي تعيث فيها الفوضى مؤخرًا
النبتة التي اقتنيتها ذبحها العفن
أكياس كثيرةٌ على الأرض تحكي عن تنقلات كثيرة
حقائب يد متناثرة، بعضها على الأرض وبعضها متكئ على حقيبة سفر كبيرة. وهذه تحكي عن ماذا؟ القلق؟ الحيرة؟ السفر؟

وحدها الملصقات والبطاقات البريدية والصور التي علقتها على الحائط وباب خزانة الثياب الكبيرة لم تتحرك.
حتى سريري وتسريحتي بمرآتها قد تزحزحا بضعة سنتيمترات لليمين أو الشمال. لكن موضع نومي على هذا السرير لم يتزحزح.

هذه الغرفة الكبريتية هي بيروت الخاصة بي. هنا أطلقت فيّ بيروت حرّياتها المزعومة، وهنا بثّت فيّ لعناتها السليطة، وهنا أعادت ثَقب القلب مرة بعد مرة كلما تعافى. وهنا، داخل هذه الألوان المحترقة، لقنتني بيروت حكمة البكاء.
عامٌ كامل في بيروت أصحو فيه كل يوم حوالي السادسة صباحًا لأتصارع مع الشارع وسيارات السرفيس حتى أصل لمكتبي الرمادي في السابعة والنصف.
العام يبقى بما طبعه علي من علامات وألوان، الغرفة تبقى، ويذهب المكتب الرمادي، يغوص وراء الشمس. أحتفظ به في قارورة، محلولاً مركّزًا عن تجربة. جرعة احتياطية ربما أحتاجها في حادثٍ مستقبلي.

وأبقى أنا.
أبقى واقفةً، محاوِلةً، محاوِلةً مرةً أخرى، متصدّيةً للموجة العامة التي يركبها الكثيرون ممّن استسلموا.

العام يوصد بابه على ذكرى. القلب يفتح بابه للبدايات الجديدة.

أنا البدايات الجديدة، وموطني أنا.

فرح برقاوي

الأحد، سبتمبر 16، 2012

أسمّيها نجمة أيلول

هذه الديمة 
بالأبيض تتبختر
لحبيبٍ
هذه الديمة أعرفها
أذكرها طفلة
تتبختر في يوم المدرسة الأول
أرى ضحكتها
قصة شعرها
حقيبتها تحملها 
تحلم

كبرت ديمة 
وبقيت في أيلول
تفتتح الدنيا وتبتسم
كبرت ديمة
ولا زالت تتبختر نحو الباب
لعوالم أخرى
تسبرها في أيلول
ديمة الطفلة 
ديمة المرأة 
أسمّيها نجمة أيلول

فرح برقاوي

* لابنة خالتي  ديمة اللبابيدي

الثلاثاء، يوليو 10، 2012

قصة قصيرة

نظرةٌ في شتاءٍ بعيد
خطو مطرٍ مسرعٍ
رقص يمامٍ متعبٍ
بوحٌ يفيض

نظرةٌ في ربيعٍ غريب

سَفرٌ مقدّسٌ
أصابعُ دائخة
قبلةٌ بِكر
سؤالٌ خجول

نظرةٌ في صيف قائظٍ
سفر ٌ دؤوب
عرقٌ مقطّر
بداية القول
رشفةٌ بعد صومٍ صبور 


فرح برقاوي

الخميس، يونيو 28، 2012

صباحٌ بأعلام. صباحٌ بغير أعلام.

صباح الخامس والعشرين من حزيران، أجلس على شرفتي أستمع لاستيقاط المدينة. العصافير أولاً، أطياف الشمس، جارٌ خمسينيّ يحضّر سيارة الأجرة قبل أن يذرع شوارع بيروت طلباً للرزق وتزميراً للركاب. راهبةٌ تغادر سكنها المواجه لي وتتجه لكنيستها. رجلٌ سبعينيّ يظهر من طرف الشارع المختبئ وراء الأسمنت، يسير بحذرٍ، يعبر من أمام شرفتي ثم يختفي ثانيةً وراء أسمنت آخر.
سيارات متفرقة تأتي في الاتجاهين لشارع ضيق، ومع كل دقيقة ترتفع الحرارة وينحسر النسيم الصباحي عن حارتنا. جاري يشغّل سيارته ويمضي، باصٌ مدرسي صغير يلتقط ابنة جيراننا من أمام مبنانا، أصغي لحركة الجيران الأولى في الصباح تتسلل من النوافذ والشرفات. على أحبالٍ من شرفات البعض يتدلى غسيل منمق الترتيب والألوان، ومن شرفات البعض تتدلى أعلامٌ كبيرة بارتفاع طابق لألمانيا وإيطاليا تشجيعاً لهما في الدوري الأوروبي لكرة القدم.
لبنان يُجَنُّ بدوريّ أوروبا، المقاهي تكتظ، الأراجيل تزدهر، الضوضاء تتمدد لتشمل أصوات المعلقين والمشجعين، السيارات المحتفلة تملأ الشوارع، الأعلام تُرفع والحياة اليومية تُدهس بين مباراة وأخرى. الأسعار تعتلي السلالم بينما أصحاب المنزل منشغلون بأفراحهم الكرويّة. ليس لبنان وحده مصاباً بهذا الهوس أعرف، لكنني صدمت به، ربما لصغر مساحة البلد التي تكاد لا تتسع لأعلامها فكيف بأعلام الفرق الأوروبية المنتشرة. ربما استأت لندرة الأماكن التي بإمكاني الجلوس فيها مساءً دون صوت مصاحب لمعلّق كروي متحمس ودون صراخات الزملاء الجالسين على الطاولات المجاورة.
أدهشني الأمر حيث وأثناء النشوة بأهداف المرمي الأوروبي، كان فلسطينيو مخيم نهر البارد أهدافاً لنار الجيش اللبناني. وحين تنبّه جمهور مخيم عين الحلوة، دخلوا دوريّ النار كذلك ليرمي ضابط جيش هاج بذعره فتى في السابعة عشر برصاصة اخترقت رقبته التي خرج ذاك اليوم يُعليها ضد الظلم والتمييز.
حزيران والدوري الأوروبي يناسبان بيروت ولبنان كثيراً. حزيران الشهر المؤلم الحامل لذاكرة تأبى أن تُنسى، يحاصره الدوري الأوروبي فيحوّل ذكرى الاجتياح الاسرائيلي لبيروت (4 حزيران 1982) وذكريات مجازر عدة إلى حفلٍ بنصر فريق كرويّ. وبينما تتأرّق جماجم شهداء مخيم تلّ الزعتر يوم الثاني والعشرين من الشهر الأرعن، تصحو هتافات وتصفيقات الجمهور اللبناني وكذا العربي على هدفٍ حطّ في مرمى.
أفكّر بأن حزيران والدوري الأوروبيّ يناسباننا نحن العرب، فتمر على شبابنا انتخابات مصر عبوراً، وأرقام الأطفال المقتولين بسوريّا تضجرنا، وصواريخ العدوّ الصهيونيّ على غزّة لا تُسمع إلا في غزّة، وصباح السودان يطلع وحده. ونحن أمام الشاشة الخضراء، نرى الفرق الأوروبية تتصارع على إثبات أن كرتها هي الأصوب. نرى دفقاً من التوستيسترون ينتشل أجساد فتيات اليورو الحسناوات ويلوح بقوّة الرجال في الملعب. دفقٌ من التوستيسترون العربي يُنفق يومياً ودفقٌ من الدم العربي ينزف يومياً بحياء وصوت واطئ لئلا يزعج المشجعين.
في السابعة صباحاً، الحي الذي أقطنه يستيقظ أكثر فأكثر، المارّة يتكاثرون، السيارات، القطط الجائعة، بائع الخردوات، بائع الكعك، دالية العنب على سطح الجيران، الحمام على أسلاك الكهرباء. نسيم الصباح ينحسر أكثر، ومعه حركة الأعلام الأوروبية وغسيل الجيران المنتظم الصفوف.

تحين موعد حركتي أنا أيضاً، أغادر شرفتي وأعدُ صباحي بأنه في يومٍ قريبٍ جداً سيطلع، ويعيد المشهد نفسه، بالترتيب نفسه، لكن دون أعلام ضخمة تحجب الشمس عن حارتنا.

فرح برقاوي
كتبت يوم الاثنين
25/6/2012

الجمعة، يونيو 01، 2012

طقوس المرايا

أمام مرآتي نفسها أقف ثانية
ككل ليلة أعلن نهاية اليوم
أفكّ طوقه مثلما يطلق أحدهم كلبه لمساحات رحبة ريثما هو يتنفس الهدوء والخلوة لقليل من الوقت

أمام مرآتي أحدّق في عينيّ المتعبتين من الشاشة الصغيرة لحاسبي البنفسجي المحمول. أحدق في الحاجبين وارتسامتهما الواضحة. أراهما يشكران لي زيارتي اليوم لـ"ماغي" التي أزالت ما حولهما من شعرات زائدة تغطي على تمايزهما.

أعود مرة أخرى إلى ما تحت الحاجبين. لتلك العينين الحاملتين لمدن كثيرة وحكايات وأخبار. أتذكر كلام أحدهم عن حبه للقصص الذي يكاد يغطي على أي حب. أستعيده يحرضني أن أكتب قصصي تلك التي أجمعها كل يوم/كل مكان/في كل مدينة/مع كل شخص/ومع نفسي. أتذكره وجفناي المتهدلان يكادان ينطقان بقصص اليوم التي حملتها أو علقت بي منذ الصباح دون أن أنتبه لوزنها أو هيئتها أو ما تركته فيّ من رائحة.

أسترجع تلك القصص وأنا في وسط غرفتي محدقةً في المرآة المتكئة على تسريحتي الخشبية الحبيبة. أسترجعها كلها باللون والصوت والحركة والمساحات والأشخاص والثقل أو الخفة اللذان خلفتهما لي. وفي منتصف استعراضي لإحداهن أستوقف شريط الصور، أؤنب نفسي وأعدني بأن لا أعود لفعلةٍ مماثلة، لكنني أعلم كما في كل مرة أنني سأزلّ ثانية وسأعود لنفس النقطة لأفعل نفس الشيء.

الوقت يمضي بتلصص في ساعة اليوم الأخيرة، ولو لم تلتفت إليه لخدعك وجردك من هناء النوم أو الصحو. القصص نفسها جميلة، أحدث نفسي، لكنها هي الأخرى بارعةٌ في اختطافك من مكانك لمكان لا يعني فيه الوقت شيئاً ولا ينتظرك في الصباح التالي فيه وظيفةٌ تبتزّك.

أمام المرآة أتنبه للوقت المباغت وأجدني ممسكة بقطعة قطن مبللة بما تحتويه القارورة الفرنسية من سائل يتدرج لونه بين الشفاف والبرتقالي. أراها تعبر على وجهي كمساحة مفتوحة للتجريف. ببطء تجتاز خدي الأيمن من حدود الشفتين إلى طرف العين لتمسح جبيني بعدها برفق وتنتقل إلى الخد الأيسر. ومن ثم تحطّ عند الرقبة لتزيح بقايا الغلال التي أحكمها اليوم عليّ.

قطعة قطن أخرى تتلوها، مغموسة بسائل أخضر برائحة السوسن تأتي كمنوم مغناطيسي لتتغلغل في أعماق وجهي وتسمح لكل القصص الرابضة هناك بالطيران. تتطاير القصص كلما مرت قطعة القطن بالقرب من واحدة، يتهدل جفناي أكثر استعداداً للاستسلام لهذا الليل وملاءاتي الكثيرة.

أتأكد من وضع "الكريم" على وجهي بعدها. أخبرتني إحداهن مرة أنه هو الآخر بحاجة لغطاء حميم، بحاجة إلى الإحساس بالأمان حتى يقوم أثناء النوم بحراسة الأحلام من أن تطير. بل إنه يغذيها لعلّها تصير في الغد التالي قصصاً جميلة نذكرها بابتسامة عند نهاية اليوم.

أرتب ابتسامتي للنوم، أشم رائحة وجهي والكفين، أودّع مرآتي إلى أن أراها في الصباح جميلة كما غفوت عليها. أسلّم نفسي لخلوة السرير ورحابة الليل.

ثم أنام بعد أن أقول لوجهي بأنني أودعته وجسدي أحلامي كلها، وابتساماتي الآتية كلها، ونظرات الوله القادمة كلها. أسرّ له: كن رفيقاً مخلصاً أيها الوجه العزيز.

فرح برقاوي

كتبت بتاريخ
10/4/2012
12:30 ص

الاثنين، مايو 14، 2012

فلتمت هادئاً مطمئن البال

سأقتلكَ اليوم
الموسيقى كُلّها من حولي تقول بأنّك ستموت!
تماماً كما جئت
ستموت وأنت تبعد بضعة مقاعد مطرقاً رأسك، مفكراً
ستموت وحيداً
كما جئت
طفلاً نزقاً
كئيباً

***


سأقتلك اليوم
وأنت بدورك
كما جئت ضعيفاً
خائفاً
بطبيعة الحال
ستموت

فلتمت إذن
 هانئاً مطمئن البال

السبت، مايو 05، 2012

لمبنى يتجنّبني وأتجنّبه


على طاولةٍ متطرفةٍ في الشمس، في يونس الحمراء "الأصلي"، أجلس. تتقاطع في رأسي الأفكار وتهوي من كل صوْب وأنا أحاول التركيز في أمرٍ واحدٍ فقط. التركيز في حسم واحدةٍ من المسائل الكثيرة المزدحمة في رأسي التي تكاد تنفجر بصداعها.

أتململ لثوانٍ، أقلّب في يدي صفحات دفتري الذي أحمله أينما ذهبت، أرفع نظري إلى كوب "اللاتيه" الذي يتناقص ببطء تخميراً لرغبتي فيه. تَطرقُ سمْعي أصوات مجموعةٍ من الشباب على الطاولة المجاورة يتراشقون جملاً بلغةٍ حادةٍ لا أفهمها. يتململون هم أيضاً أثناء حديثٍ غير توافقي.

نظرات بعض المارة وبعض الجالسين من حولي على رصيف أحد الشوارع الفرعية في بيروت ترتطم بي. أرتبك وأُشيحُ بنظري وكأني كنتُ أتلصّص على قصصهم في محاولة لكتابة قصتي أو حلّ مسألتي العالقة.

من طاولتي المتطرفة في الشمس أرى شجرةً مشذبةٌ أطرافها على شكل مكعب في الزاوية اليسرى لنظري. ومن الجهة اليمنى، أقصاها، يأتي اللون الأخضر الغامق لواجهة محل ثيابٍ للمترَفين. في اليمنى المواجهة تقف بناية بيروتية بشبابيك خضراء هي الأخرى، يطلّ من شرفة الطابق الثاني فيها اصطفاف عشوائي لنباتات منزلية، وتذكرني بشرفة أمي "الحديقة" في منزلنا الأول بمخيم اليرموك بدمشق.

تتركز عيناي على المبنى المرتفع الذي ينتصف مدى بصري. لا تفصلني عنه سوى أسلاكٌ كهربائية كثيرة على شكل أقواس في جميع الاتجاهات بادئةً من عمود على يميني. أحملق في المبنى الكبير المليء بالشقق الفارغة والشبابيك المفتوحة عن غبارٍ كثيف. غبار في كل مكان، على حوائطه البيضاء غبار قديم يمتد إلى التفاصيل التي تزين حوافّ شرفاته بشكل زهر الياسمين المتشابك. وعلى الستارة الوحيدة المعلقة على شرفة في الطابق السابع غبار.

على الطابق الثالث هناك علامةٌ خادعةٌ على الحياة. لوحة تسويقية بلاستيكية في ثلثها الأيسر يظهر شاب بصدر عارٍ. إلى جواره في المنتصف شابة تجلس بسروال ضيق مخطط كجلد النمر، فاتحةً ساقيها، كاشفة بطنها، لا نرى وجهها. إلى جانبها صورة ملونة (بعكس السابقتين) لطفلٍ أشقر بعينين ملونتين مطبوعةً على خلفية صفراء. التخمين الممكن للغرض من اللوحة هو وجود استديو للتصوير الفوتوغرافي، لكنه لا يمكن الجزم بذلك من موقع جلستي.

لا يربطني بهذا المبنى شيء.
بل يربطني به كل شيء. فهنا، وفي أحد الطوابق العلوية للمبنى المغبّر سكنت أمي إلى أبي أول مرةٍ. هناك في الأعلى كانت شقتهم الأولى حيث كان الحبّ لا يزال حيّاً.

أذكر أمي تماماً حين جلسنا سويةً في نفس هذا المقهى منذ عامين. أذكر عينيها اللتين ورِثت بعضهما وهي تخبرني دون اهتزازٍ تام بأنها أحبّته وسكنته يوماً. أذكرها، وأذكر كلّ مرةٍ أخبرت فيها أصدقائي الجدد هنا عن تلك الشقة التي سكنها والدَيّ مرةً. أظن بأنني كنت حارّة أكثر من أمي صاحبة الخبر الأساسي، في محاولة لرمي جذور ما لي في هذه المدينة. تاريخٌ لي يسبقني إليها.

لكن، لا يمكن أن يربطني بهذا المبنى شيء. أراجع نفسي مرةً أخرى. لا يمكن لهذا المبنى المغبّر الخالي من الحب أن يكون قد شهد على عشق اثنين في أحد الطوابق العلويّة.

أو ربما، يربطني بهذا المبنى العاجز عن الحب منذ زمنٍ، كل شيء.


فرح برقاوي
(مقهى يونس، الحمراء، بيروت)

الاثنين، أبريل 23، 2012

حدثَ في بارٍ راقٍ ببيروت


كأسُ نبيذٍ أبيض. كأسُ كريستالٍ على طاولة خشبيةٍ بشكل مثلّث ولون برتقالي، وأجسادٌ تتمايل وحبيبان سابقان يتبادلان الأخبار الحقيقية والأخبار الزائفة، المجاملات والبسمات.

موريس يميل بجسده هو الآخر فوق لوحته الإلكترونية التي تومض بألوان كافية. أحمر أزرق، أزرق أحمر. وفي داخلي وخزةٌ ما، عفريتٌ يقول لي: تمايلي أمام هذا الحشد، بُوحِي بكلّك وهِبي نفْسَك لهذا اللحن، لهذا التخبّط الإلكتروني داخل بارٍ راقٍ في وسط مدينتِكِ الجديدة، بيروت.

حرارةُ الجسدِ تتصاعد وأفكّرُ: هل هو النبيذ الصيفيّ الشفّاف أم الموسيقى أم تلك اللوحة البيضاوية الإطار المعلّقة على الجدار المواجه لي- رجلٌ راكبٌ جملاً، ممسكٌ بلجامه ويحثه على الانطلاق؟ - لوحةٌ تبدو مضحكةً في هذا البار الراقي الذي تعمل سلّة المهملات فيه بالكهرباء، فينفتح غطاؤها من المنتصف عن داخلها حين تقترب يدك لترمي.

حبيبان سابقان يغامران باكتشاف جديد الآخر بعد غياب. وفتاةٌ صبيةٌ تقف في الخلفية تشكّ بجمال جسدها الصاخب بالحياة والحب الرقيق، وأنا. كلنا مسخّرون لحب هذا الفضاء الذي يصنعه موريس بأصابعه وقلبه. كلٌّ منا يبوح برغباته على طريقته.

وأنا؟ أكتب. وحين سأنتهي أعدُ نفسي بأني سأرقص. سأتمايل بلوعة جسدي في غياب الحبيب.

كأس نبيذٍ أبيض/كأس كريستال على طاولة خشبية مثلثة برتقالية الوجه، وشمعةٌ تتلاعب بالضوء، وجهازا محمولٍ، وكأس مارتيني لأحدهم، ومحفظة أقلام، وقلمٌ أزرق في يدي، ودفترٌ شوّاق للحرف، وأنا. أجسادٌ تتمايل، كلّنا، في بارٍ راقٍ، في وسط مدينتنا، بيروت.

فرح برقاوي
(موريس/ بار مومو)

الجمعة، أبريل 06، 2012

الثلاثاء، فبراير 28، 2012

ثلج

الميت يرقد هناك
والجميع يرحلون عن ذلك الدير المعلّق على جبل ما من جبال البلد الصغير، المفتت.
وحده يبقى هناك ممسكاً بزمام الوادي الكبير. متحسسّاً بكامل روحه الشمس الجديدة بعد مطر. مريحاً كامل جسده للثلج واستدارة الأكاليل ورسالةٍ من امرأة أتلفه حبها.

الميت يظلّ هناك
وسيلٌ من السيارات المكتظة بمعاطف سوداء يجتاز انحناءات الجبل صعوداً وهبوطاً مطلقاً زفيراً أخير.
الطرقات الضيقة التي تعيدهم لمدينتهم تخبئ شجراً نافذاً من صخر. تخبئ ضوءاً منثوراً. ترمي عليهم صوراً/ذاكرةً مع ندف الثلج.
تقرصهم ببطء.
تولد أفكاراً وأحاديث ونقاشاتٍ تبدأ بطقوس الوداع، ثم تمرّ على طباع المودعين، ثيابهم، ضحكاتهم المرّة، لتقفز بعدها إلى تجارة الموتى- توابيتهم، ألوانها، أخشابها، نقوشها، وقبورهم الرخامية.
تتوالى الأحاديث ثم تنقطع وحدها هكذا كما انبثقت إلى صمتٍ. إلى ابتسامةٍ تائهةٍ وبريقٍ في عينيّ امرأةٍ تجلس في المقعد الأمامي لسيارة "غولف" عائدة للمدينة كما الآخرين.

الميت يضحك هناك
الميّت اختلى بالجبل البعيد وتقهقر المودعون إلى مدينتهم أكثر وحدةً.

فرح برقاوي

وادي الكرم، لبنان

- كُتبت في 20/2/2012

السبت، فبراير 18، 2012

غرفة العناية المركزة

رواية كئيبة يا صديقيرواية كئيبة هذي التي تريدني أن أكتب لك رسالة مطوّلةً أو قصيرة عنها. هذي التي أمضيت شهراً كاملاً أحاول إنهاءها. هذي التي أنهتها صديقة أخرى (وخرّيجةٌ مثلي من نفس الكلّية التي نتشاركها مع الكاتب*) في ظرف ازدحامين مروريين داخل شوارع القاهرة. هذي التي تريد قراءتها مرة أخرى. أو أكثر.
رواية من أربعة فصول لا تنتهي ولا تريد أن تتركها. رواية تجري سريعاً. أحداثها نقطة زمنية مطاطية مغمورة بالذكريات. تجري سريعاً ثم لا تلبث تدرك النهاية المقطوعة الأوصال. تقع في شركها. تصل لنقطة البداية من جديد دون أن تنتبه وتقفل الغلاف الخلفي بألم أو خيبة متوقعين. تترك الغلاف مدركاً كم نبشت تلك الفصول وتلك التفاصيل أجزاءً من روحك وبعض حكاياتك التي كنت قد أهلت عليها التراب بنيّة وداعٍ أخير.
رواية جميلة يا صديقيهاتي التي نصحتني بأن أقرأها. هاتي التي تلاحقني في كلّ يوم لتحرضني على إنهائها. هاتي التي تترقب رسالتي لك عنها. أنهيتها اليوم. أرحْتُ الغلاف الخارجي. وقررت أن أكتب ما طلبته وما تطلبه روحي وما تدفعني إليه أصابعي التي احتضنت ذاك الغلاف لشهر وبضعة أيام.
رواية حين تريحها على الطاولة المواجهة لك تؤلمك ذراعك. أجل ذراعك من عند الكتف. تلك الذراع التي شعرت بألمها المتكرر والمخنوق لثلاثة فصولٍ متتابعة لتنتهي للفصل الرابع إلى استراحةٍ غريبة. استراحةٍ مزيفةٍ تعفيك من ألم الجسد لتسلمك إلى ألم الروح. ألم الغربة بأقسى أنواعها، غربتنا داخل أوطاننا. الغربة التي تنخر في العظم ولا تريحك إلا لقبرك أو لهجرةٍ تزرعك في غربة بديلة.
أكذب. أكذب عليك أو عليّ أحياناً. ربما لا تكون غربةً على الإطلاق. أفكر بأن الوطن لم يعد هنا أو هناك. الوطن لم يكن ولن يكون ما علموناه. هو بالتأكيد ليس ما قالوه لنا عنه. ليس تلك الأرض الحارقة للأخضر ولنا. ليس ذلك الهواء الأسود الذي يلطخنا بشكل يومي ويتركنا مصابين بعدوى السقم والذنب والخيبة.
لماذا لا نهاجر؟ لماذا عاد نشأت غالب إلى مصر؟ لماذا لم يدرّس في السوربون ويعطي حبّه لأحدٍ وينجب أطفالاً أجمل منه ومنا؟"عدت، لأن هنا هو المكان الوحيد الذي لا يفترض أن أبرر فيه سبب وجودي. لأني أشعر بأن هذا المكان لي"، يقول نشأت وأضحك بأسىً عليه. يكذب هو الآخر. فهذا المكان هو نفسه الذي وجّه له أقسى اللطمات. هو آخر مكان سيذكره بعد أن تستهلكه الظلمة وانعدام الأوكسجين في احتباسه داخل المبنى المتفجّر.
"يا قاتلة"ترن هذه الكلمة في رأسي. تشوّشني. صداعٌ يكاد يقسمني.
بعد أن تمرّ بصراعات العميد أحمد كمال والصحفي أشرف فهمي ومن بعدهما داليا الشناوي المحامية، كلٌّ منهم ملقياً عليك أسئلةً كثيرةً ونظريّاتٍ عديدة ودروساَ في الحياة وفي الحب والصداقة، يأتي نشأت غالب. يأتي من ظنناه محامياً فاشلاً ليقطع هذه الأسئلة بالنار التي تحرق قلبه. "يا قاتلة". يسلطها بتكرارٍ موجع على داليا، حبيبته السابقة، تلك التي تستولي على كل نسائه وتحلّ محلّهن. وفي نفس الوقت يسلطها عليك. وعلى بلده. تلك القاتلة. تلك التي نحبها وتقتلنا.

رواية ساخرة يا صديقي تسخر منا لما نراه كلّ يومٍ ولا يستوقفنا. تسخر من قصص حبّنا. تسخر من أحاديتنا وافتقادنا لفهم الآخر أو الاستماع إليه. تعرينا. تجلدنا. يجد كل منا نفسه في تفصيلةٍ صغيرة داخلها أو قد تلتبس عليه ذاته في مواجهة إحدى شخصياتها. تجلدنا تكراراً. ينهال علينا الإسمنت مرةً أخرى. تؤلمنا ذراعنا من عند الكتف مرةً بعد مرةٍ. نرى كلّ شيءٍ مرة أخرى. نتساءل عن رجال الإسعاف مرةً أخرى. يغيب عنا الهواء مرةً أخرى، ويدٌ صغيرةٌ تمسك بيدنا مرة أخرى، ثم قفزةٌ شاسعةٌ تنتشلنا من سوادنا مرة أخرى، وينفتح باب المصعد ليكشف عن وجه حبيبتنا، مدينتنا، غربتنا، ومشاكلنا، قبل أن ننهال على أنفسنا ونتدحرج للقاع مرةً أخرى.
أنهيت الرواية أخيراً. ولا أريد أن أعود إليها قريباً. تخيفني هي. كما يخيفني السؤال التي تركتني هي له قبل أن أترك غلافها الخلفي لهدأةٍ يستحقها. ماذا عنّا يا صديقي؟ كيف نواصل العيش في غرفة العناية المركزة؟

فرح برقاوي
بيروت
*رواية غرفة العناية المركزة للكاتب د.عز الدين شكري فشير، دار الشروق، 2011

السبت، فبراير 04، 2012

تأملات في الخراء

لا بُدّ وأنني في كل مرة أشدّ فيها على مقبض السيفون بعد إحدى جلسات التأمل أتنهد.

لا بُدّ وأنني أفكّر ككل مرةٍ بما حدث. بكم الخراء الذي انفلت من جسدي أو الذي عملت جاهدةً لدقائق لا أعدّها على طرده مني.

لا بُدّ وأنني أحدق به لبضع ثوانٍ قبل أن أطلق للسيفون العنان معلنةً خلاصي التام من كل ما كان فائضاً/ضاراً/مزعجاً/خانقاً/مُلحّاً داخلي.

لا بُدّ وأنني أنظر لحجمه وهيئته وأحاول تذكر ما أكلته في الليلة السابقة أو التي سبقتها لأجد تفسيراً للصورة المترامية أمامي في قاع كرسيّ الحمام الأجوف.

لا بُدّ وأنني في كلّ ثانيةٍ من تلك اللاتي تعبرن بين لحظة القبض على القطعة الحديدية أعلى خزان المياه وبين اختفاء صوت اندفاع وانحسار الماء في قاع الكرسي، لا بُدّ وأني أمارس فنّ الدعاء النادر لكي يبتلع الكرسيّ وجميع أنابيب الصرف الصحيّ هذا الخراء الخارج مني بشكلٍ كافٍ دون أن يتركوا أي أثر.

بالأحرى، أنا أدعو هذا الكرسيّ العجيب ليشدّ من همّته، لأن يشحذ جميع قواه، لأن يمارس سحره ويخلصني أنا ومن حولي من هذا الخراء الكبير الذي خرج ليقبع مقابلي في درجةٍ ملاحَظةٍ من التحدي.

لا بُدّ وأنني في كلّ مرةٍ أيضاً أرسل نظرة ساخرة قبلما أمدّ يدي إلى المسكة الحديدية. نظرة ساخرةٍ أو نظرة إدراكٍ في لحظةٍ جِدُّ حقيقية. نظرةٍ لهذا الخراء ولنفسي ولتحولاتي من بعده. نظرةٌ تغدو فكرةً أو تفكّراً في الخراء الأصيل. الخراء الحقيقي الكامن في أجسادنا. الخراء الذي لجبروته بِتنا نراه أو نحسه أو نعيشه كلما ضقنا بفكرةٍ أو عاطفةٍ أو شخصٍ أو مكانٍ أو صورةٍ أو صوتٍ أو رائحةٍ أو قائدٍ أو قضيّةٍ.

لا بُدّ وأنني أرسل نظرةً هازئةً أو نظرة إدراكٍ لأنني في كل مرة أقترب من الإيمان بأن الخراء برغم جبروته ضعيفٌ. ضعيفٌ بكل ما يفوح به، بكل ما ينقله من أمراضٍ، بكل ما يؤلمنا به بعض الأحيان. الخراء ضعيفٌ لأنه خسر المعركة، لأننا مستعدون لبذل جميع السبل للفظه دون توانٍ أو تخاذل أكثر من أي شيءٍ في حياتنا. ربما.

الخراءُ مريحٌ. فهو إن أصبح خارجنا تغدو الحياة متاحةً. الخراءُ جميلٌ.

أفكّرُ بأنني في كلّ مرةٍ أرسلُ ابتسامةً راضيةً. أقول لنفسي بأنّ الخراءَ جميلٌ فهو يفاجئنا كلّ مرة مثل النشوة حين تحاصرنا وتفرج عنّا في بضع ثوانٍ. بأنّ الخراء هو الآخر غريزيٌّ حميم وأنه علينا أن نحبّه أكثر.

فرح برقاوي

بيروت

الاثنين، يناير 30، 2012

الصوت يحيط بي من كلّ جانب

أنا والكأس الحمراء في هذه الفسحة الضيقة المعبأة بالدخان
بعضه يُنفث في وجهي أو شعري من المحيطين بي
لكننا وحدنا. أنا والأحمر الذي روى "مارك" مدير المكان قصة عنه عندما كنت لا أستمع حقاً.
وحدنا أنا وهذه الكأس، نمتص بعضنا، نشتفّ مزازتنا، كلّ منا يترك في الآخر نَفسَه، يرسله لبرهة ويعود.

الصوت يحيط بي من كلّ جانب
الصوت يتصاعد في هذه الفسحة الضيقة كلّما ضرب "موريس" بإصبعه على اللوحة السوداء مقابله هناك في الزاوية. اللوحة ليست سوداء تماماً، أراه ينحني بصدره على أزرق وأحمر أيضاً. ومع كلّ انحناءة، مع كلّ اهتزازة جسد، مع كلّ نقرة يد أو نبضة موسيقى أنا وهذي الكأس نقترب، نتقارب، نتماهى. تصير أنا.
أصير شراباً أحمر قانٍ للعاشقين على موائد عشاءات تشتعل بالرغبة، بالصمت المربك، بالكلام المربك أكثر، بالنظرات الحائرة والمركّزة في آن، باللمسات المتخبّطة المتعثرة.

الصوت يحيط بي من كلّ جانب
الصوت يعلو/يرتفع/ينبض. كل ما أسمعه هو نبض كأس فيها روحٌ تتقمصني.
أنا هي هاتي الكأس بانحناء أنوثتها، بطعمها المستعصي على الفهم، برقصها في الرأس والجسد.
أنا هي هاتي الكأس الحمراء الساكنة على طاولة في هذه الفسحة الضيقة المحاطة بالصوت الذي يعلو في الرأس ويكبر. المحاطة بالصوت الذي يصبح مهيأً للرقص كما يرقص الأحمر المسافر بين أصابعي إلى شفتيّ المشتاقتين.

الصوت يحيط بي من كلّ جانب
أنا وهذي الكأس وشعري نصبح ثلاثتنا وحدنا. نعبّ من الدخان والصوت المنهالين علينا من كل زاوية. شعري بحلقاته الهائجة يستنفر، يمتص هذه الرائحة المزعجة كما تتنشقها رئتاي المرهقتان. الرائحة المزعجة هذه هي نفسها التي في مطارح أخرى أحبها. أحبّها كما أحبّ جميع الروائح المتناقضة مثلي. أحبّها لأنني أقصدها وأشتمها في كل من أحب أو أنني أحب كل من أشتمها فيه.

الصوت يحيط بي من كلّ جانب
وأنا أفتّش عن علاقتي المبهمة الطويلة بهذا الكائن الذي فتحت عينيّ عليه ولا زلت غير قادرةٍ على الاستقلال عنه.
الصوت يعلو من كلّ جانب
وأنا أرى صوراً متلاحقةً لمراحل عمرية عابرة والثابت فيها هو هذي البيضاء الملساء المحترقة.
الصوت يتوزع في المكان
ونظراتي معه تجسّ الآخرين، تبحث فيهم عن ذائقةٍ تشبهني، عن هوسٍ مثيل، عن متلازمة احتراقٍ أخرى.

الدخان يحيط بي من كلّ جانب
الرائحة المزعجة هذه هي نفسها التي في مطارح أخرى أحبها. أتذوّقها.
نكهة السجائر في القبلة.
أكذب. ربما السجائر الفرنسية.
ربما هذا هو ما أحب وأقصد.
مذاق السيجارة في الأصابع، إطلالتها في الصباح وجلستها التي تفيض بالإغراء بين أصابع من نريد.
هاتي الجلسة تدعو للغيرة الحمقاء. هاتي الجلسة التي لو صاحبتها الكأس الحمراء الساكنة فيّ لتفتحت كل مسام الفسحة عن رائحة حب طري.

وما زلت أفكّر. وما زلت أجرّب. لكن
الصوت يخفت من كلّ جانب
اهتزازات الجسد تنطفئ
أعقاب السجائر تنزوي
الدخان ينقشع من كلّ جانب
الأحمر يتسرب من هذي الكأس التي تتسرب من يدي
أنا وشعري نصبح اثنين وحدنا
أنا وشعري نقترب، نتقارب، نتماهى، نصير أنا.
نبتسم. نعود للبيت وحدنا.

فرح برقاوي

بدأت في 17 كانون ثاني 2012
بيروت، لبنان

الاثنين، يناير 16، 2012

في يوم أحد اعتيادي

أحس بالاختناق

قبضة ملطخة بكل قذارة الأرض تلتف حولي. هذا الثعبان المباغت المتسلل انقض علي. أراه يدور، بادئاً من قدمي، يتسلقني، يغطيني، يعتصرني، يجتث كل طاقةٍ للبقاء فيّ، يعريني من علامات الروح، أراني أموت.

كان يومي هادئاً نسبياً، غائماً جزئياً. كان يوم أحدٍ اعتيادي، يبدأ بالاستيقاظ في العاشرة صباحاً، قراءة بعض الصفحات من رواية "غرفة العناية المركزة" التي بدأتها منذ عدة أيام، التمدد لنصف ساعة بجوار دفء "ك" والحديث عن آخر المستجدات الحياتية والعاطفية مع بعض المواقف الطريفة التي حدثت أثناء أسبوعينا المنفصلين، ثم إعداد القهوة وساندويتش الجبنة الساخن معها واستكمال الأحاديث، والتخطيط ليوم الأحد، اليوم الثاني من كل إجازة أسبوعية في بيروت، لبنان.

غسلت شعري كما كانت تفعل أمهاتنا وجداتنا في الزمن البعيد، مستمعةً لنصيحة الكهربائي الذي أّجّل تصليح سخّان الماء للغد بسبب إغلاق المحلّات التي تبيع قطع الغيار المناسبة، ملقية برأسي بالوضعية المقلوبة فوق حوض الاستحمام أغمره بالشامبو والماء الذي سخن مسبقاً على النار. ثم جهزت نفسي وذهبنا جميعاً لسوق الأحد.

مشينا تحت الغيم وشوادر البلاستيك في الأزقة الطينية لسوق الأحد. توقفنا هنا وهناك لدى المحلات الموشحة بمزيجٍ مبهرٍ من الفقر والقذارة والاحتيال والبضائع الملفتة. كل واحدٍ منا خرج بقطعة ما من سوق الأنتيكا، وأنا عن نفسي اشتريت مسبحة يتدلى منها صليبٌ منقوشٌ بخطوطٍ متجهة من المركز للخارج كشمس تسطع على البشرية الحمقاء، ومفتاحاً قديماً ينفتح على داخله ليصير فتّاحة لزجاجات النبيذ، وقطعة سجّاد صغيرة جداً لا تصلح إلا لتغطي طاولةً جانبية ولا تعجب أحداَ ممن كانوا معي.

لكن الشمس لم تسطع في هذا الأحد الاعتيادي. ظل الجو غائماً رمادياً، وظللنا نحن نحاول أن نقضيه بالتنقل بين جميع الأنشطة التي لا نطرقها عادةً، ذهبنا عند "ماما تيتا" السيدة العجوز التي تعد مناقيش الله في سن الفيل مقابل جامعة الألبا حيث كانت "ك" تدرس سابقاً. دللتنا كما اعتدنا واعتادت، وأكلنا أكلنا حتى أصبحنا بغير قدرة على الحركة، ثم تحركنا عائدين.

ذهبت بعدها لمنزل والديّ صديقة قديمة يسكننان على مقربة لا توصف من منزلي. دخلت عليهما بعد غيابٍ لألقي التحية على أمها المصابة بالبرد قبل أن أتّجه لمنزلي وأذهب مع أصدقائي لحضور حفلة "الفرعي" في زيكو هاوس بالصنايع. دخلت عليهم، وبعد أن جلست قليلاً ذهبت للمطبخ مع الأم لتحضير الشاي، ليجيئنا صوت الأب من الصالة يحدثنا عن خبر عاجل على أحد القنوات التلفزيونية اللبنانية.

"خبر مؤسف بشكل حقيقي" و"من الطبيعي أن يكون الناس المتواجدين مصابين بالفزع" تقول المذيعة. تقول أيضاَ وتذكرنا كل أقل من خمس دقائق بأن قتيلة واحدة كانت هناك، أو كما وصفتها بالـ"البنت الوحيدة الميتة واسمها _ _ _". تسمرت أنا أمام تلك الشاشة التي أكرهها. غارت عيناي وانتصبت أذناي كتلك الكلاب البوليسية التي رأيتها تركض فوق ركام المبنى الذي انهار "بقدرة قادر" وبجميع طوابقه على كل من فيه من أحياء وجماد. المبنى المغدور كان في الأشرفية، بيروت، لبنان. ويضيف أحد نواب مجلس الشعب عن المنطقة حين سأله مراسل القناة بأنه "حزين، فلم يكف هذه المنطقة تعرضها للانفجارات حتى تصاب بفجيعة كهذه وينهار أحد مبانيها"، ويتأسف النائب لضعف قوات الإنقاذ "فليست هذه القوات مجهزة لهكذا كارثة". وأسرح أنا.

عيناي الغائرتان ترحلان لمكان آخر. لزمن آخر. لمشاهد أخرى سمّرتني قبل الآن أمام نفس الشاشة التي أكرهها. رأيتني أمام شاشة تلفازي في منزلٍ صغير كان منزلي في دبي. يناير/كانون الثاني 2009. أحدق في الشاشة وفي الموت حتى أصبحا وجهان لحرب واحدة. أحدق في الشاشة وفي الشخص الجالس قربي، في نفسي، في هاتفي الذي لم يرن والذي لن يرن كما اعتاد كل يوم حين تتصل بي أمي عدة مرات من غزة. أمي كانت بخير، لكنها لم تتصل لأن الكهرباء عزيزة في عمق الحرب، ولأنها لا تستطيع أن تهدر كل ما في هاتفها من طاقة لعلّها تحتاجه إن حلت مصيبة.

أيّ مصيبة؟ أكثر من التي كنت وما زلت أراها نفسها في هذه الشاشة التافهة. أيّ مصيبة؟ أسوأ من أن تجلس محملقاً في الدم وكلّك كلّ الظن بأنك تعرف ما يجري، وبأنّك ممسك بزمام الأمور، وبأنهم سيذكرون اسم من رحلوا، وأنك حتى الآن لم تسمع اسم أحد يخصك لا من قريب ولا من بعيد، إذن فأنت تستطيع النوم كما نمت البارحة، حتى ولو أرقتك الأفكار السوداء لبعض من الليل.

في بيروت تسمّرت. وتذكرت الشاشة التي بغضتها عاماً كاملاً أو عامين. من خريف 2000. كنت في السادسة عشر حين دخلت طائرات الإف 16 الإسرائيلية حياتي. حين عمّت رائحة الموت مدينتنا. حين خرجنا للمدرسة في السادسة صباحاً ودارت الحافلة في شوارع يملؤها الدم والذباب. تذكرت كيف أن وجودي داخل غزة كان مريحاً، خاصة في الحرب، فلم أحتج لشاشات بغيضة لأسمع صوت الطائرة القاتلة. لم أحتج لرنين هاتف يطمئنني على أحد. لم أخف مثلما خفت منذ خرجت منها.

كان يوم أحدٍ اعتيادي، يومي ويوم كل من حولي، ويوم تلك العائلات التي لم تنتشل كلها بعد سواء جرحى أو جثث من تحت مبنى الأشرفية المنكسر. كان يوم أحدٍ اعتيادي حتى صارت الساعة السادسة والنصف، حتى اختنق المبنى بكل من فيه ولم يعد قادراً على الوقوف، حتى نزل عليهم وعلينا وعلى الشاشات التي أكرهها.

تأملت الشاشة طويلاً، أريد الكتابة كنت أحدث نفسي، أريد البكاء، أريد أن أقتل المذيعة أيضاَ، هذه التي تعيد وتزيد وتكرر علينا ما حدث، وتؤكد بأن نقل هذا الخبر حصري لتلك القناة المجيدة. تأملت الشاشة طويلاً وصارحت نفسي، وربما "ك" بأنني خائفة، بأني لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم الليلة في المنزل، هذا الذي لم نهنأ بأي ركن فيه دون الحاجة للتصليح والتصليح وإعادة التصليح.

لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما ينكسر عليّ لركاكة بنائه وطمع أصحابه، وإنجازه "بشلفقة" كما تنجزمعظم الأشياء في بيروت. لا أعرف إن كان سينكسر عليّ لأن مبنى مجاور قيد التعمير قد يؤثر على أساسات مبنانا ويعطيه القدر الكافي من الإزاحة لينهار وتنهار كل خططنا معه، وتضيع كل الأشياء الجميلة التي نحملها للبيت من هنا وهناك لنجعله بيتنا.

لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما هو الآخر لن يكون، كما لم يكن آخرون من قبله، لن يكون البيت الذي أريده أن يكون.

فرح برقاوي

السوديكو، بيروت، لبنان