عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

السبت، أغسطس 03، 2013

خبراء النهش في الداخل














ذهبوا جميعهم ليجربوا ماء النهر المجاور وبقيت وحدي هنا
على الشرفة المنخفضة للبيت الخشبي، على كرسي خشبي
أدير ظهري للباب وأطلق عيني للأخضر
الغابة تسمعني، البعوضات الحالمات يحلقن من حولي في محاولة لاختراقي
بقع الشمس المتسربة من بين الأشجار ترتمي على الحشائش القصيرة جدًا أمامي
السماء زرقاء، كم أنسى أحيانًا لونها
أزيز متنوع التيمات يأتي من بين الأشجار
لكنها على استلقائها الحميم حولي لا تغريني بترك مقعدي
صوت انطباق كفيّي بعد فشل اصطياد بعوضة يلفتني
حفيف تلو حفيف، وهم جميعهم عند النهر معًا

أفكر لماذا اخترت البقاء فأنا أحب الناس، أو بالأحرى، أستمد طاقتي من الناس، ترهقني ساعات التأمل التي قد تفرح الآخرين. 
تذكرت هذا وأنا أتلفظ بكلمة "لا" حين سألتني إحداهنّ إذا كنت أنوي مرافقتهم للنهر
"لا"، هكذا وحدها، بشكل أتوماتيكي خرجت وتبعتها الفكرة
لماذا "لا"؟ لا أعرف بالتحديد
لماذا " لا" وقد يكون السبب وراء تعكّر مزاجك في ما بعد ظهيرة يوم جميل هو بقاؤك في نفس المكان لفترة طويلة. غيّري الأماكن يا أختي يمكن الله يفرجها عليكي! - يحدثني الصوت في الداخل، أتجاهله.

أستكمل إعادة قراءة مقطع أخافني في كتاب "الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي:
"ما أتعس ذهنًا لا يصغي لما هو خارجه، ولا يهدأ ويشتبك مع نفسه."
"الذهن عقرب قادرة على لدغ نفسها"، قال الصوفي. "لقد نهشوا عقلك يا رجل، نهشوه، مثل شاة معلقة على فرع شجرة كي تشبع قطيع ذئاب. صار كالكرة التي يتدربون عليها في الملاكمة!". سألته: "من هم؟". قال: "هم، من يسكنون في ذهنك، خبراء النهش".

لا أستطيع أن أمضي قدمًا في هذا الكتاب. لا أفهمه. يخيفني حقًا! يرعبني بعض الكلام ويشتتني كلام آخر. أشعر بأنني ضئيلة. لن أقرأ صفحة أخرى، لا يجب أن أنهيه!
لكنني أمضي للسطر التالي، ثم للصفحة المجاورة، ثم أقلب الصفحات، حتى يظهر عنوان "الفصل الثاني"، أخرج زفرة راحة لا إرادية، أضع فاصل الصفحات الخشبي وأقفل الكتاب باستسلام.

أدير رأسي بحذر نحو الجهة اليسرى من الأخضر، هناك مشنقة صفراء معلّقة على جذع شجرة.
لا أتمالك نفسي
أدير رأسي نحو الجهة اليسرى من الأخضر، هناك أرجوحة صفراء تنتهي بعجل مطاطي معلّقة على جذع شجرة.
لا أتمالك الفكرة/الصورة التي عبرت مخيّلتي لوهلة، أدير وجهي للجهة الأخرى لأتأكد أن لا أحد رآني وأنا أنظر إليها. يقطع هذا التسلّل الفكري صوتي وأنا أهزّ رأسي وأصرخ "أوووووووووووف" على بعوضة مصرّة على الاقتراب من وجهي.

في اللحظة التالية، أسخر من إحدى شخصيات الكتاب في ذهني. يا رجل، ليس هناك أي كائنات مرحة في الداخل، أو لم يعد هناك أي كائنات مرحة في الداخل، كان زمان وجبر. أتذكر بعدها عندما كنت أغلق باب غرفتي في منزلنا أنا وأمي في غزّة وأشغّل موسيقى (أي موسيقى قد تخطر ببالك) وأبدأ بالرقص في كل شبر من الغرفة وكأنني أتدرب لعرض كبير وحرفي. توقفت عن الرقص في غرفتي خلال عامي الأخير في غزة، عام الشهادة الكبيرة – شخرة، ومعه غادرت الكائنات المرحة لأن الداخل لم يعد مكانًا لها. (احذر/ي من كتابة أي موعظة تتعلّق بما قرأته للتوّ)

غصّة حزن تباغتني وأنا أقفل السطر السابق. أنا هنا في شمال ولاية نيويورك، أقضي عطلة الأسبوع مع أصدقاء في أجمل بيت ريفي رأته عيناي، بعيدًا عن بيت ليس بيتي وحرب الشوارع في مدينتي، لكن الكائنات المرحة لا تعود حتى في الأماكن الساحرة. أشعر بحاجة ملحّة لتوقف عن الكلام وإقفال الموضوع.

أقفل الكلام والصفحة فجأة، فلم أعرف يومًا كيف يُكتب السطر الأخير.

الثلاثاء، مايو 28، 2013

الدموع على الخدين ساخنة كمنقوشة تشتهيها ربما


الدموع على الخدين ساخنة كمنقوشة تشتهيها ربما
في لحظات الهدوء
لحظات الألم الصميم
الدمعة الأولى تكسر الصمت
تنحدر ببطء على أحد الخدين وقد تستمر في الانحدار حتى تبلل أول الرقبة
قبل أن تتلوها واحدة أخرى
المسافة التي تقطعها الدمعة يحددها حجم القطرة وقدرتها على الانحدار إضافة إلى كيفية تموضع الرأس في تلك اللحظة
الدموع على الخدين تذكرك بحضن أمك الدافئ؟
أو أن الشوق لحضنها الدافئ يستدعي دموعًا دافئة بنفس القدر؟
أو أن إدراكك أن الحضن الدافئ لم يعد الحل هو ما يعتصرك؟
دعنا منك

***

الدموع لا تكتفي بالانحدار على الوجه
بل تلتصق به وتحفر مسارها حتى المستقر الأخير
حينها، هناك خياران اثنان:
الاستمرار في البكاء، استدعاء المزيد من الحزن الشاق على الروح، ومعه الاستمرار في ترطيب الخدين والوجه بدموع طازجة ساخنة حتى تستنفذ طاقتنا، نصاب بالصداع، تسيل أنوفنا أو تسرح أرواحنا في مكان آخر أو نسقط في غفوة.
الخيار الآخر هو كتمان لحظة الأسى باستدعاء مهمة ما، غسل الوجه على عجالة، والانهماك في الابتعاد عن تلك اللحظة حتى نصطدم بها ثانية أثناء الدوران حول أنفسنا وعندها نكون أمام خيارين آخرين: السقوط مرة أخرى أو الاستمرار في الدوران.
هذا الخيار يليق مثلاً بالحادثة اليومية عندما تصحو كل صباح وتسأل نفسك عن مكانك، تطارد كل أسماء المدن التي تليق بالإجابة وكل خيالات الغرف والمنازل التي قد تكون بيتك وتعود لصورتك في تلك اللحظة فتجد نفسك مع دمعة ساخنة في اللاشيء.

أما أمثالي، من أصبحت الدموع زائرهم اليومي صباحًا مساءً فقد لا تنطبق عليهم الخيارات أعلاه رغم اقترابهم من الخيار الثاني، أو أنهم لفرط اعتيادهم عليها أصبحت ضمن نظامهم اليومي الحيوي بين الأكل والنوم والبول والخراء.

فرح برقاوي
القاهرة
الثلاثاء ٢٨ - ٥ - ٢٠١٣

الثلاثاء، مايو 07، 2013

الكمّون ومجمّع التحرير وجواز سفري


١١ عامًا قد مضى.

أقف كما وقفت وقتها في طابور الانتظار بين أكوام لحم وروائح وأقمشة مختلفة منتظرة معاملات إقامة الطلاب.

١١ عامًا قد مضى، تخرّجت وسافرت كثيرًا، غيري جاء وذهب وأقام ورحل، قامت ثورة في مصر، إلا أنه لم يتغير شيءٌ في مجمّع التحرير، كلنا نتحول فور دخولنا إلى أكوام/أشلاء/جواعى للإقامات والتمديدات والطوابع وأختام الموظفين. لم يتغير شيء سوى آلات فحص الحقائب عند المدخل التي اختفت وتقف الآن مكانها شابّة تتفحّص ما نحمله دون أي اهتمام. الشبابيك لا تزال قائمة مغبّرة مليئة بالملصقات والإعلانات والأرقام الباهتة. الأشخاص أنفسهم يجلسون أكوامًا خلف الشبابيك، فقط أكبر بأحد عشر عامًا، أكثر تدوّرًا بفضل بعض الشحوم المتراكمة، وأكثر لامبالاة وميكانيكية.

أقف في واحد من الطوابير المتراصّة، أفقد إحساسي بجسدي فمن جانبي الأيسر تتداخل معي أجساد المتصارعين على طابور آخر، وعلى كتفي يستريح بوقاحة ملحوظة/"عشم" ساعد امرأة تصرخ بلهجة خليجية على الموظّف المغبّر وراء الزجاج المغبّر. أستدير لأنظر لها ثم أفقد جميع الكلمات حين أراها نفسها ضحيّة ساعد ثقيل آخر يفترش كتفها ويتكرّر نفس المشهد تباعًا إلى الخلف، نساءٌ ورجالٌ يتحولون هنا إلى كائنات صارخة متّكئة كلٌّ على كتف من أمامه. يكاد المشهد يمتد للانهاية حتى تقطعه رائحةٌ ما.

أهو الكمّون؟ أجل، وفلفلٌ أحمر أيضًا. أعيد نظري للأمام لأرى رجلًا جديدًا بين الأكوام خلف الزجاج يرمي لهم بأكياس البهارات المتنوعة حتى كان من حظّي أن أشهد هبوط كيس الكمّون على مكتب الرجل الذي ننتظره جميعنا ليدير وجهه هو الآخر طالبًا نوعًا إضافيًا من البهار. رذاذٌ من الكمّون تطاير لينقذني من الروائح البشريّة المحيطة بي ولينبهني بأن دوري كان قد اقترب كثيرًا بينما كنت أنظر للخلف.

أخيرًا دوري حان، والرجل المغبّر يتناول جواز سفري الذي طاله أيضًا رذاذ الكمّون والفلفل الأحمر، يقلّبه بين أصابعه المنتفخة المسودّة بنفس اللامبالاة، يمسك بالختم العريض ويهوي به على إحدى الصفحات. يمسك بعدها القلم الأزرق ليكتب بعشوائية فوق عدة خانات "إقامة غير محدودة" ويرميه ككيس بهارات آخر أمامه. أسأله إن كان قد انتهى فيرفع عينه إليّ بنظرة خاوية أفترض أنها تعني الإيجاب. أتسحّب أنا مع جواز سفري كما دخلت تاركةً الغبار والكمّون والروائح الأخرى والأكوام الصارخة والمتسارعة من وإلى الطوابير، أنبثق من بوابة المجمّع لألاقي الشمس والسماء والألوان والوجوه والسيارات وبعضًا من المدى المتبقي وأستعيد حقيقة كوني إنسان.

فرح برقاوي

حدث يوم الأربعاء 17 – 4 – 2013
القاهرة، مصر

كتبت يوم الخميس 25 – 4 – 2013
على منديل أثناء مؤتمر في مرّاكش، المغرب