عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

السبت، فبراير 18، 2012

غرفة العناية المركزة

رواية كئيبة يا صديقيرواية كئيبة هذي التي تريدني أن أكتب لك رسالة مطوّلةً أو قصيرة عنها. هذي التي أمضيت شهراً كاملاً أحاول إنهاءها. هذي التي أنهتها صديقة أخرى (وخرّيجةٌ مثلي من نفس الكلّية التي نتشاركها مع الكاتب*) في ظرف ازدحامين مروريين داخل شوارع القاهرة. هذي التي تريد قراءتها مرة أخرى. أو أكثر.
رواية من أربعة فصول لا تنتهي ولا تريد أن تتركها. رواية تجري سريعاً. أحداثها نقطة زمنية مطاطية مغمورة بالذكريات. تجري سريعاً ثم لا تلبث تدرك النهاية المقطوعة الأوصال. تقع في شركها. تصل لنقطة البداية من جديد دون أن تنتبه وتقفل الغلاف الخلفي بألم أو خيبة متوقعين. تترك الغلاف مدركاً كم نبشت تلك الفصول وتلك التفاصيل أجزاءً من روحك وبعض حكاياتك التي كنت قد أهلت عليها التراب بنيّة وداعٍ أخير.
رواية جميلة يا صديقيهاتي التي نصحتني بأن أقرأها. هاتي التي تلاحقني في كلّ يوم لتحرضني على إنهائها. هاتي التي تترقب رسالتي لك عنها. أنهيتها اليوم. أرحْتُ الغلاف الخارجي. وقررت أن أكتب ما طلبته وما تطلبه روحي وما تدفعني إليه أصابعي التي احتضنت ذاك الغلاف لشهر وبضعة أيام.
رواية حين تريحها على الطاولة المواجهة لك تؤلمك ذراعك. أجل ذراعك من عند الكتف. تلك الذراع التي شعرت بألمها المتكرر والمخنوق لثلاثة فصولٍ متتابعة لتنتهي للفصل الرابع إلى استراحةٍ غريبة. استراحةٍ مزيفةٍ تعفيك من ألم الجسد لتسلمك إلى ألم الروح. ألم الغربة بأقسى أنواعها، غربتنا داخل أوطاننا. الغربة التي تنخر في العظم ولا تريحك إلا لقبرك أو لهجرةٍ تزرعك في غربة بديلة.
أكذب. أكذب عليك أو عليّ أحياناً. ربما لا تكون غربةً على الإطلاق. أفكر بأن الوطن لم يعد هنا أو هناك. الوطن لم يكن ولن يكون ما علموناه. هو بالتأكيد ليس ما قالوه لنا عنه. ليس تلك الأرض الحارقة للأخضر ولنا. ليس ذلك الهواء الأسود الذي يلطخنا بشكل يومي ويتركنا مصابين بعدوى السقم والذنب والخيبة.
لماذا لا نهاجر؟ لماذا عاد نشأت غالب إلى مصر؟ لماذا لم يدرّس في السوربون ويعطي حبّه لأحدٍ وينجب أطفالاً أجمل منه ومنا؟"عدت، لأن هنا هو المكان الوحيد الذي لا يفترض أن أبرر فيه سبب وجودي. لأني أشعر بأن هذا المكان لي"، يقول نشأت وأضحك بأسىً عليه. يكذب هو الآخر. فهذا المكان هو نفسه الذي وجّه له أقسى اللطمات. هو آخر مكان سيذكره بعد أن تستهلكه الظلمة وانعدام الأوكسجين في احتباسه داخل المبنى المتفجّر.
"يا قاتلة"ترن هذه الكلمة في رأسي. تشوّشني. صداعٌ يكاد يقسمني.
بعد أن تمرّ بصراعات العميد أحمد كمال والصحفي أشرف فهمي ومن بعدهما داليا الشناوي المحامية، كلٌّ منهم ملقياً عليك أسئلةً كثيرةً ونظريّاتٍ عديدة ودروساَ في الحياة وفي الحب والصداقة، يأتي نشأت غالب. يأتي من ظنناه محامياً فاشلاً ليقطع هذه الأسئلة بالنار التي تحرق قلبه. "يا قاتلة". يسلطها بتكرارٍ موجع على داليا، حبيبته السابقة، تلك التي تستولي على كل نسائه وتحلّ محلّهن. وفي نفس الوقت يسلطها عليك. وعلى بلده. تلك القاتلة. تلك التي نحبها وتقتلنا.

رواية ساخرة يا صديقي تسخر منا لما نراه كلّ يومٍ ولا يستوقفنا. تسخر من قصص حبّنا. تسخر من أحاديتنا وافتقادنا لفهم الآخر أو الاستماع إليه. تعرينا. تجلدنا. يجد كل منا نفسه في تفصيلةٍ صغيرة داخلها أو قد تلتبس عليه ذاته في مواجهة إحدى شخصياتها. تجلدنا تكراراً. ينهال علينا الإسمنت مرةً أخرى. تؤلمنا ذراعنا من عند الكتف مرةً بعد مرةٍ. نرى كلّ شيءٍ مرة أخرى. نتساءل عن رجال الإسعاف مرةً أخرى. يغيب عنا الهواء مرةً أخرى، ويدٌ صغيرةٌ تمسك بيدنا مرة أخرى، ثم قفزةٌ شاسعةٌ تنتشلنا من سوادنا مرة أخرى، وينفتح باب المصعد ليكشف عن وجه حبيبتنا، مدينتنا، غربتنا، ومشاكلنا، قبل أن ننهال على أنفسنا ونتدحرج للقاع مرةً أخرى.
أنهيت الرواية أخيراً. ولا أريد أن أعود إليها قريباً. تخيفني هي. كما يخيفني السؤال التي تركتني هي له قبل أن أترك غلافها الخلفي لهدأةٍ يستحقها. ماذا عنّا يا صديقي؟ كيف نواصل العيش في غرفة العناية المركزة؟

فرح برقاوي
بيروت
*رواية غرفة العناية المركزة للكاتب د.عز الدين شكري فشير، دار الشروق، 2011

هناك 4 تعليقات:

lemondrops يقول...

نشأت..نشأت..معرفش يلاقي قهوة في مطارين مختلفين..متسأليس ليه رجع، محدش عارف احنا ليه قاعدين.

فرح يقول...

أهلين. أول ردة فعل. كنت مستنياها.

معرفش يلاقي حاجة.
واحنا مش عارفين.

غير معرف يقول...

كتير حلو أسلوبك في الكتابة , قرأت كل مواضيعك جميعها بلا مبالغة أكثر من رأئعة

رشا

فرح يقول...

رشا العزيزة

مبسوطة بزيارتك وبتعليقك

تعالي دايماً على بيني وبينك

كل المودة