عزيزتي دال،
ها أنذا أجلس أمام البحر، كما تمنيت لي
مضحك كم كانت سريعة الحياة في الاستجابة لأمنيتك هذه المرة. ربما علينا أن نتوقف عن إطلاق أمانينا الخاصة وأن ننتظر أمنيات الآخرين لنا.
القرية هنا غالبية سكانها من الطبقة المتوسطة، لا توجد الكثير من النساء على البحر، وقد لا يكون هناك امرأة غيري هنا تجلس بالمايوه البكيني دون مبالاة لنظرات المراهقين والعابرين المتطفلين.
في السنة الماضية اكتسبت شجاعةً غريبةً عني في الشارع وفي الأماكن العامة. أصبحت لا أكترث للنظرات ولا لوجود الآخرين من حولي. أفعل الآن أمورًا لم أتخيل أني سأفعلها من قبل، أن ألبس "كَت" أو فستانًا مثلًا في وسط البلد، أو كما فعلت يوم السبت الماضي في العيد حين لبست توب كَت صدره مفتوح وذهبت للسينما وعبرت وسط فوج من الرجال الذين يحاولون دخول المول بسلاسة ودون مبالاة. بغض النظر عن درجة أمان الشارع والأماكن العامة حاليًا وعن مجهوداتنا على مدى سنين مضت، أعتقد أن هناك شيئًا ما في العبور إلى الثلاثينات. أحس بأني أكبر قليلًا من الصبية الهائمين، بأني أكثر حكمة، بأن عظمي أصلب وجلدي أخشن، وبأني قادرة على الصراخ بصوت أعلى والنظر إلى المتطفلين بعنف أكبر.
لا أعرف إن أصبحنا أفضل في تفادي الخراء، أم أن الخراء، حتى الخراء، لم يعد موجودًا من حولنا كما السابق. إن توقفنا عن ملاحقة الآمال الكاذبة أو أننا تعبنا حقًا وفي استراحةٍ طويلةٍ جدًا سنصاب بعدها بالخيبة مرة أخرى وأخرى وأخرى. لكنني أرى أننا بالتأكيد أصبحنا أفضل في توقع الخيبات والتعامل معها.
اليوم كنت أنظر إلى الموج وأتذكر كلام يلدا صديقتي، كانت تواسيني في فقدي العاطفي وتحدثني عن "اللاديمومة" أو "حتمية التغيير". كانت تتحدث عن أول خطوة في فهم ما حدث، نصحتني بأن أفكر بالموج، لكنني عندها لم أتوقف عن التفكير بالأشجار. كيف من بذرة تنمو إلى شتلة ثم شجرة ثم تموت ولو بعد حين. اليوم تمكنت أخيرًا من التأمل في الموج، كيف تولد الموجة ثم كيف تكبر وتهجم ومن ثم تنحسر، وأتذكر كيف أن كل شيء في حياتي كان هكذا. الخيبات أيضًا، حبي الكبير، وجعي الكبير، وحتى أحلامي واهتماماتي. حلمي مثلًا بأن أصبح أمّا.
الآن أريد أن أكتب أكثر، وأن أعيش في مكان مناسب لأن أكون أمًّا. أتساءل هل يمكنني ذلك يومًا؟ هل هذا حلمٌ أسهل؟
معك حق، علينا قبول لا يقينية اللحظة، وأننا سنعوم أحيانًا أو ربما دومًا على وش الفتة، وأن لعلّه خيرًا.
بغض النظر عن تحقق أحلامنا ورغباتنا المختلفة في ما يخص الأمومة أو الحب أو التحقق الذاتي أو العدالة الاجتماعية حتى، أصبحنا أقدر على تقدير لحظات صغيرة جميلة واقعية جدًا ويقينية جدًا مع ما تبقى لدينا من أنفسنا ومن الآخرين وأطفالهم.
أسرح أحيانًا في احتمال ألا أصبح أمًّا أبدًا، الفكرة غدت أقل قسوة علي، أجهز نفسي دون قصد لذلك الوقت إن أتى، أقول لنفسي سأفعل أشياءً كثيرة، سيكون لدي كل الوقت والحرية لكي أسافر كثيرًا، وأتأمل كثيرًا، وأرقص وأتمرّن وأتشمس كثيرًا، وأن أطبخ وأحب أكثر من مرة دون خوف، فالأسوأ أو ما ظننته الأسوأ قد حدث بالفعل! وأن أكتب وأقرأ وأغفو دون أي إزعاج، وأن آخذ توتة وبوري في مشاوير مثيرة دون ثقل الأمومة وذنوبها.
أجهز نفسي لكل ما يمكن أن يأتي، لكل شعور يمكنني أن أحسه. أحب كيف بإمكاني أن أطبخ وأن أحتضن وأستقبل أصحابي وأن أضيء الشموع وكأننا جميعًا في موعدٍ غرامي. لا بأس حين نكون وحدنا حقًا. لا بأس فعلًا.
هذه الفترة أعجز عن كتابة النصوص عدا الرسائل. لكنني بدأت أخيرًا، وبعد خمول شهور، بالقراءة من جديد. أقرأ الآن رواية مصورة جميلة بعنوان “Blankets”، كنت قد اشتقت للقراءة كثيرًا كثيرًا لدرجة البكاء. حبيبتي القراءة كنت ظننتها لن تعود، والآن أحس بأن حبيبتي الكتابة ستزورني في وقت ليس ببعيد.
أتمنى لو يومًا أتجرّأ وأنفّذ بعض الأفكار التي تجول في رأسي، ومنها جلسات الكتابة حول حروبنا الشخصية كنساء خرجن من رحم نساء، ومن بيوت وتجارب كثيرة، وكيف ننجو ونستمر بالنجاة. حتى في رسالة كهذه أنجو.
سآكل منقوشة بالكشك خبزتها ريم منذ قليل، أحيانًا أحس بأن ريم أمي، ثم أحس بالذنب لأنني أنسى أن أتصل بأمي. سأحادثها حين أعود للشاليه.
رسالتك أنعشت قلبي، حقًا، شكرًا على الشجاعة يا دال، ولأنك دعوتني للسفر، للبحر وللكتابة.
الجمعة، 8 سبتمبر 2017
ها أنذا أجلس أمام البحر، كما تمنيت لي
مضحك كم كانت سريعة الحياة في الاستجابة لأمنيتك هذه المرة. ربما علينا أن نتوقف عن إطلاق أمانينا الخاصة وأن ننتظر أمنيات الآخرين لنا.
القرية هنا غالبية سكانها من الطبقة المتوسطة، لا توجد الكثير من النساء على البحر، وقد لا يكون هناك امرأة غيري هنا تجلس بالمايوه البكيني دون مبالاة لنظرات المراهقين والعابرين المتطفلين.
في السنة الماضية اكتسبت شجاعةً غريبةً عني في الشارع وفي الأماكن العامة. أصبحت لا أكترث للنظرات ولا لوجود الآخرين من حولي. أفعل الآن أمورًا لم أتخيل أني سأفعلها من قبل، أن ألبس "كَت" أو فستانًا مثلًا في وسط البلد، أو كما فعلت يوم السبت الماضي في العيد حين لبست توب كَت صدره مفتوح وذهبت للسينما وعبرت وسط فوج من الرجال الذين يحاولون دخول المول بسلاسة ودون مبالاة. بغض النظر عن درجة أمان الشارع والأماكن العامة حاليًا وعن مجهوداتنا على مدى سنين مضت، أعتقد أن هناك شيئًا ما في العبور إلى الثلاثينات. أحس بأني أكبر قليلًا من الصبية الهائمين، بأني أكثر حكمة، بأن عظمي أصلب وجلدي أخشن، وبأني قادرة على الصراخ بصوت أعلى والنظر إلى المتطفلين بعنف أكبر.
لا أعرف إن أصبحنا أفضل في تفادي الخراء، أم أن الخراء، حتى الخراء، لم يعد موجودًا من حولنا كما السابق. إن توقفنا عن ملاحقة الآمال الكاذبة أو أننا تعبنا حقًا وفي استراحةٍ طويلةٍ جدًا سنصاب بعدها بالخيبة مرة أخرى وأخرى وأخرى. لكنني أرى أننا بالتأكيد أصبحنا أفضل في توقع الخيبات والتعامل معها.
اليوم كنت أنظر إلى الموج وأتذكر كلام يلدا صديقتي، كانت تواسيني في فقدي العاطفي وتحدثني عن "اللاديمومة" أو "حتمية التغيير". كانت تتحدث عن أول خطوة في فهم ما حدث، نصحتني بأن أفكر بالموج، لكنني عندها لم أتوقف عن التفكير بالأشجار. كيف من بذرة تنمو إلى شتلة ثم شجرة ثم تموت ولو بعد حين. اليوم تمكنت أخيرًا من التأمل في الموج، كيف تولد الموجة ثم كيف تكبر وتهجم ومن ثم تنحسر، وأتذكر كيف أن كل شيء في حياتي كان هكذا. الخيبات أيضًا، حبي الكبير، وجعي الكبير، وحتى أحلامي واهتماماتي. حلمي مثلًا بأن أصبح أمّا.
الآن أريد أن أكتب أكثر، وأن أعيش في مكان مناسب لأن أكون أمًّا. أتساءل هل يمكنني ذلك يومًا؟ هل هذا حلمٌ أسهل؟
معك حق، علينا قبول لا يقينية اللحظة، وأننا سنعوم أحيانًا أو ربما دومًا على وش الفتة، وأن لعلّه خيرًا.
بغض النظر عن تحقق أحلامنا ورغباتنا المختلفة في ما يخص الأمومة أو الحب أو التحقق الذاتي أو العدالة الاجتماعية حتى، أصبحنا أقدر على تقدير لحظات صغيرة جميلة واقعية جدًا ويقينية جدًا مع ما تبقى لدينا من أنفسنا ومن الآخرين وأطفالهم.
أسرح أحيانًا في احتمال ألا أصبح أمًّا أبدًا، الفكرة غدت أقل قسوة علي، أجهز نفسي دون قصد لذلك الوقت إن أتى، أقول لنفسي سأفعل أشياءً كثيرة، سيكون لدي كل الوقت والحرية لكي أسافر كثيرًا، وأتأمل كثيرًا، وأرقص وأتمرّن وأتشمس كثيرًا، وأن أطبخ وأحب أكثر من مرة دون خوف، فالأسوأ أو ما ظننته الأسوأ قد حدث بالفعل! وأن أكتب وأقرأ وأغفو دون أي إزعاج، وأن آخذ توتة وبوري في مشاوير مثيرة دون ثقل الأمومة وذنوبها.
أجهز نفسي لكل ما يمكن أن يأتي، لكل شعور يمكنني أن أحسه. أحب كيف بإمكاني أن أطبخ وأن أحتضن وأستقبل أصحابي وأن أضيء الشموع وكأننا جميعًا في موعدٍ غرامي. لا بأس حين نكون وحدنا حقًا. لا بأس فعلًا.
هذه الفترة أعجز عن كتابة النصوص عدا الرسائل. لكنني بدأت أخيرًا، وبعد خمول شهور، بالقراءة من جديد. أقرأ الآن رواية مصورة جميلة بعنوان “Blankets”، كنت قد اشتقت للقراءة كثيرًا كثيرًا لدرجة البكاء. حبيبتي القراءة كنت ظننتها لن تعود، والآن أحس بأن حبيبتي الكتابة ستزورني في وقت ليس ببعيد.
أتمنى لو يومًا أتجرّأ وأنفّذ بعض الأفكار التي تجول في رأسي، ومنها جلسات الكتابة حول حروبنا الشخصية كنساء خرجن من رحم نساء، ومن بيوت وتجارب كثيرة، وكيف ننجو ونستمر بالنجاة. حتى في رسالة كهذه أنجو.
سآكل منقوشة بالكشك خبزتها ريم منذ قليل، أحيانًا أحس بأن ريم أمي، ثم أحس بالذنب لأنني أنسى أن أتصل بأمي. سأحادثها حين أعود للشاليه.
رسالتك أنعشت قلبي، حقًا، شكرًا على الشجاعة يا دال، ولأنك دعوتني للسفر، للبحر وللكتابة.
الجمعة، 8 سبتمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق