عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

السبت، أغسطس 04، 2018

عن الارتباك والقبول: أم وبنت وبينهما معبر رفح

نشرت هذه المقالة بالعربية على موقع مدى مصر بتاريخ 8 مارس2017



عدت لبيتي بعد أن أوصلتها إلى المحطة الأولى في طريق عودتها لبيتها. كلتانا تحبان صُنع البيوت، كلتانا تحتفظان بأصغر الأشياء، تقتنيان الشمع، تأكلان ما أعشب في الأرض، كلتانا تحبان الحياة، بل تقاتلان من أجل الحياة.

لا نحب هذا الوداع، فبيتها الصغير كبيتي، ليس في الشارع المقابل، ولا في الحي المجاور، ولا حتى في المدينة الصغيرة على بعد ساعتين أو ثلاث. بيتها هناك، حيث ينصبّ ظلم العالم كله على الحدود وما وراءها بلا هوادة. بيت أمي هناك، في الطابق الخامس من إحدى بنايات شارع اللبابيدي في غزة.

قبلها بعدّة ساعات، كنت تحت الماء الساخن أتأمل بصمت زجاجات الشامبو المصطفة على طرف الحوض. لملمنا كل الأشياء وضغطنا الحقائب لتسع أغراضها القديمة والجديدة. لم يتبق سوى زجاجات شامبو الأطفال الذي تستخدمه؛ لن تأخذها معها. فكرت بأن ذلك أفضل، سأذكر أمي في الأيام القادمة كلما فاحت رائحة الصابون.

وَصلَتْ أمي القاهرة منذ شهر وسبعة أيام، بعد سنتين من الغياب. أربعين ساعةً قضتها بين الانتظار في الباص والنوم على أرض المعبر المصري والتقدم البطيء في الصحراء والتعطّل المتكرر على الحواجز وعبور النيل نحو المدينة المزدحمة البعيدة زمنًا وعذابًا (لا مسافةً)، حيث أسكن أنا، ابنتها. ومنذ يومين، جاءنا الخبر العشوائي دومًا بفتح المعبر، ومعه بدأت طقوس الوداع على عجل.

ليس للفلسطيني العابر من غزة إلى مصر اختيار متى يسافر ولا متى يصل ولا متى يودع أو يعود، مصيره معلّقٌ دائمًا في الهواء. ليسافر عليه تسجيل اسمه ضمن قوائم انتظار طويلة، وترقب دوره، والصلاة للحظة انفراج ما يُفتح فيها المعبر. وعندها فقط، وإذا كان محظوظًا فأتى دوره وكان اسمه ضمن القوائم الموافَق على مرورها من قبل الجهة المصرية، واستوفى جميع المتطلبات وأدى فروضًا باهظة الثمن في أحيان كثيرة، تبدأ رحلته الشاقة؛ يبدأ بالدعاء بأن تكون الرحلة أقل قسوة من توقعاته والأخبار التي يسمعها عن الطريق، وألا يضطر للوقوف لساعات على حاجز «الريسة» في العريش وغيرها من الحواجز، وألا تضيع أشياؤه وأوراقه وتتبعثر في كل مكان نتيجة التفتيش العبثي المتكرر. وأخيرًا، وبعد ساعات طوال، يصل المسافر إلى القاهرة أو إلى طائرة ستأخذه إلى عمل أو علاج أو زيارة مؤجلة للأحبة. وحين يريد العودة، لانقضاء حاجته من السفر أو لاضطرار ما، يبدأ الفلسطيني من جديد حالة الانتظار والترقب والأمل بأن يفتح المعبر. وحين يُفتح أخيرًا، يصلّي هذا المسافر التعس، هو وأحباؤه على الجانبين، أن يصل غزة حيًا سليمًا يُرزق.

تقطع خلوتي حين تحدّثني من وراء ستارة الحمام. أبتسم قبل الإجابة على أحد أسئلتها الكثيرة وغير الضرورية في الكثير من الأحيان. لا تزال بيننا تفاصيل حيّة من علاقة أم بابنتها، لا تزال رائحة عيشنا المشترك القديم قادرة على الانبعاث بين الفينة والأخرى، لكن ذلك لا يشفي ما فقدناه في سنوات البعد الطويلة منذ انتقلت للعيش خارج غزة، وتحديدًا في السنتين الماضيتين، حين لم نتمكن من اللقاء بسبب إغلاق المعبر لفترات طويلة، وصعوبة الطريق، وضياع فرص الخروج النادرة، وارتباطي بالعمل حيث لا يمكنني أن أخاطر بالسفر والغياب لأشهر حتى يُفتح المعبر فأخرج من جديد.

في البُعد، نكون امرأتين مستقلتين في بيتين منفصلين. تختفي موازين القوى وعلامات التاريخ. تعيش كل واحدةٍ في عالمها الخاص، تغوص في تفاصيل عملها، تنسج علاقاتها، تحتفي بنجاحها وتراجع مواضع فشلها، تبني أفكارها ونظرياتها عن العالم والنسوية والمجتمع، وتهتم بقلبها. وفي المساء، ترسل كلٌ منا صورة أو رسالةً قصيرة تطمئن بها على الأخرى في الجهة المقابلة.في اللقاء، المفاجئ طبعًا بسبب ظروف المعبر، تنكشف مساحة الاختلاف، وينمو الارتباك في محاولة استعادة مؤقتة وغير محددة المهلة لما نذكره عن العيش المشترك والطابع الحسي للأمومة والبنوّة. ندور حول البيت وحول بعضنا البعض بحركاتٍ سريعة متخبطة كلعبة الكراسي الموسيقية، بانتظار صافرة النهاية لتجلس إحدانا وترتاح.

"إن تجودي فصليني أسوة بالعاشقين، أو تضنّي فاندبيني في ظلال الياسمين"


منذ رجعت إلى البيت وأنا أدندن الأغنية، مستعيدة الساعات القليلة السابقة. صباح السفر تركتني أمي أوضّب حقيبتها، في اعتراف ضمني بمهارتي المتراكمة عبر سنوات من السفر والارتحال بين المدن والبيوت. جلست هي على الكنبة تكمل الصفحات المئة الأخيرة من رواية واسيني الأعرج الضخمة التي اشترتها من معرض الكتاب، وجلستُ بجانبها أرد على بعض الرسائل. حدّثتها لأول مرة منذ أتت عن نيتي في الكتابة أكثر. راجعنا خطوات اليوم حتى لا ننسى شيئًا، ثم طلبنا السمك المشوي، وأثناء انتظار وصوله استمعنا لصباح فخري يغني. ضحكنا كما كنا نفعل منذ طفولتي على فيديو له وهو يرقص في منتصف الأغنية، ثم بدأنا بالرقص معه. رقصنا سويةً لأول مرة منذ حضرت في احتفاء مكتوم؛ مهارتنا في الرقص لم تتأثر بالبعد إذن. الرقص أيضًا لا يزال يجمعنا.

الشهر المشترك لم يكن سهلًا. في كل مرة نفترق تبعد المسافة أضعافًا، نكبر في البعد أكثر. وهذه المرة كانت الأصعب بعد سنتين من الغياب. أمي كبرت، وأنا كبرت أيضًا. خذ امرأتين قويتين تعيشان بمفردهما، واحدةً في الستين والأخرى في الثلاثين، ضعهما في بيتٍ من غرفةٍ واحدة، بشكلٍ مفاجئ ودون مدة محددة، وانظر ما سيحدث.

في البدء اختبرنا مجموعة من المشاحنات اليومية المكثفة. كنت – ولا أزال – أستغرب من بعض ما تقوله أو تصنعه أمي، من هذه المرأة الستينية في مطبخي؟ في غرفتي؟ أمام مرآتي؟ متى أصبحت تحب المربّى بهذا القدر؟ بلا شك استغربتني هي أيضًا، وإن لم تعبر عن ذلك بوضوح، فمتى أصبحتُ أكره نور النيون لهذه الدرجة؟ لماذا لا أحب المربّى؟ تنازعتني نفسي بين الاختناق من الضيق المفاجئ في المساحة الشخصية وبين طاقة الحب والحنان التي أضاءت قلبي. ولم أنفك عن التعجب والإعجاب والاستفزاز في آن واحد من كم التشابه بيننا.

لقاؤنا بعد غياب أشبه بعملية استعادة جزئية بعد فقد، يتخللها بالضرورة بعض الحداد. في المسافة لا ندرك بالضبط ما الذي فقدناه، المحادثات الهاتفية والصور والرسائل القصيرة لا تكشف المتسرب من الأوصال. يخدعنا التواصل الإلكتروني، أما اللقاء فيعرينا ويعري كل ما جرّبنا، بوعي أو دون وعي، أن نخفيه عن الآخر.تمضي الأيام الأولى مع أمي في حالة حداد، إنكار وغضب ونشوة وفرح مفاجئ يليه حزن وتخبط. لكن مع الوقت – إن حالفنا بعض الحظ – نستعيد بعض الهدوء وننتقل ببطء لحالة القبول: قبول الفقد، قبول تقدّم العمر، قبول الاختلاف، قبول الطريقة الجديدة في العيش، قبول القرب الشديد والشفافية، مع الهشاشة التي تصاحبه، وقبول علاقة الأم والابنة من جديد. يغدو هنا الحديث أكثر انسيابية، ويصبح العيش المشترك أقل ضغطًا، والطبخ المشترك أكثر متعةً. شيئًا فشيئًا، تبدأ كل واحدة برسم منطقتها وفهم منطقة الأخرى، نبدأ بإعادة الاكتشاف.

إلا أن الوقت دائمًا ما ينتهي قبل أن نصل إلى نقطة «العادية»؛ تعلن السلطات المصرية فجأةً عن فتح المعبر، ويحدث هذا دومًا قبل أن نعتاد تمامًا على الترتيب الجديد، أو المستعاد، بلحظة واحدة. تنتهي حالة الاحتفال والحداد والتعوّد، تختفي الأيام الماضية ويختبئ القلق من الأيام القادمة ولا يتبقى لدينا سوى يوم أخير. امرأتان، صديقتان، أم وابنة، وبضعة ساعات لاكتناز الحب والرقص والأكل والموسيقى والأحاديث وحزم الحقائب.

فجر البارحة، قطعت أمي الصحراء الخطِرة من جديد لتعود إلى منزلها في غزة. ستغرق من جديد في روتينها وعملها الذي ستتمسك به حتى آخر لحظة من عمرها، فهي لا تعرف الجلوس دون حركة أو إنتاج. وأنا بدوري، عدت إلى منزلي في المدينة القاهرة، وسأغرق مثلها في تفاصيل عملي وحياتي، صداقاتي والازدحام وأحلام السفر وغلاء الأسعار. منذ سنوات، عندما اختارت كلّ منا مدينتها، كنا نعتقد أننا على بُعد «سفرٍ» فقط، كنا نعتقد أن غزّة والقاهرة هما أقرب نقطتين لخطّ موصولٍ بيننا. لم نكن نعلم ما ينتظرنا من مسافات مضاعفة وتعقيدات سياسية وطوابير انتظار وتنسيقات ومخاطر طريق.

اليوم هو الثامن من مارس. أفكر أن المعبر انفتح في وقت مناسب لتستيقظ أمي في بيتها وتشارك في احتفالات وأنشطة يوم المرأة العالمي كما تفعل كل سنة. بعد شهر منقطع عن العمل أتخيل صوتها الذي تربيتُ عليه، يصدح في الندوات والاجتماعات والشجارات والحملات المدافعة عن حقوق النساء.

أما أنا، فاستيقظت اليوم وحدي دون صوتها وحركتها، أعددت الفطور الذي أحبه، وغيّرت ملاءات السرير، وجلست أكتب هذا النص، تتنازعني نفسي بين ثقل الصمت والوحدة، وبين الاستقلال بمساحتي الشخصية من جديد، وبين انتظار اللقاء القادم بكل ما يحمله من شوق وحب وفقد ومواجهة وحداد وإعادة اكتشاف.

*نشرت هذه المقالة بالعربية على موقع مدى مصر بتاريخ 8 مارس 2017

**في السنة التالية، أعادت مدى مصر نشر المقالة بالإنجليزية في نفس التاريخ 8 مارس 2018، ترجمة ناريمان يوسف

 

الاثنين، فبراير 26، 2018

الكلمة المستعصية على النطق

نشر النص في مجلة رمّان الثقافية بتاريخ 06 فبراير 2018
 

استيقظتْ أخيرًا بعد تكاسل ساعتين، على السرير الذي بات لها وحدها الآن، والملاءة الصفراء التي طالما تشرّبت بعرقهما. فتحت عينيها وتسارعت دقّات قلبها لبدء يومٍ جديد. عدّلت وضعية استلقائها، رفعت رجلاً فوق رجل، القدم اليمنى استقرت على الركبة اليسرى. من هنا، كانت ترى كل شيءٍ مرتين، مرةً أمامها ومرة في المرآة الكبيرة على الحائط مقابل السرير. في قدمها اليمنى خلخالٌ بسيط؛ خيطٌ واحدٌ لا رفيع ولا سميك من الفضّة الغامقة، ومربّعٌ صغيرٌ يتدلى بعبارة "امسك الخشب".

في هدوءٍ استلقت تتابع دقّات قلبها، يدهشها دومًا كيف يفور الدم في عروقها لحظة أن تفتح عينيها. تقارنه بمولودٍ حديثٍ تأذنُ الحياة لرئتيه بالعمل فور خروجه من الرحم. وهي من رحم النوم، الموت المؤقت والأحلام، تخرج كلّ صباحٍ جاهزةً لأنفاسٍ جديدة.

كعبُها هناك آخر الخلخال. كعبها المتعب من مشي الصيف الطويل في بلدٍ غريب. كعبها الذي أخبرها عشاقها السابقون جميعًا بأنه ناعمٌ كخدٍّ حنون، لم يعدْ من السفر الأخير سالمًا؛ خدوشُ الطريق، خشونة القلب، وثقل جسدٍ مُضنى بالجراح والأفكار.

كانت ترى كل شيءٍ مرتين. وقف خلفها أمام هذه المرآة مراتٍ كثيرة. في أحيانٍ احتضنها. وفي أحيان، ترك قبلةً على بطنها أو علّق على نقصان وزنها أو اختال بجسده المشدود وصدره الواسع. وفي أحيانٍ، كانت ذراعاه على خصرها، يثبّت وقفتها، صدره المتعرق يبلّل ظهرها، يراقب وجهها، تموء وتتلوّى لما يفعله بها. يتعاقب عليها بتصميم، وهي تلفّ وجهها بكل ما تستطيع من مرونة لتخطف قبلة حيوان هائج. كانت ترى كل شيءٍ مرتين، لكنها تشكّ الآن في ما رأته. هل حدث ذلك أمام مرآةٍ أخرى؟

تتحسس الملاءة الصفراء. تستثيرها نسائم الخريف، هي التي قررت منذ مدّة التخلي عن الملابس الداخلية أثناء النوم. جسدها بحاجةٍ لأنفاس جديدة كل يوم أيضًا. تتحسّس الملاءة الصفراء وتضيق أنفاسها شيئًا فشيئًا. صور قبيحة ترسلها المرآة إليها الآن، تخطر على بالها كلمةٌ واحدةٌ لا أكثر ولا أقل، تفكّر فيها ولا تنطقها أو تكتبها.

لأشهرٍ كان هذا أول ما تفكّر به كل صباح. تسأل نفسها عن الكلمة، وتستعجب لأنها لا تجد تعبيرًا آخر عنوانًا لحكايتها. الأصوات الساكنة في الرأس تتجادل. تتفلسف. تتقارع لتحلّل معنى الكلمة، درجاتها، إمكاناتها، ومدى مناسبتها أو مطابقتها لما حدث، لما تشعر به. لكنها وهي تلتقط أنفاسها الضيقة تدرك أنها على حق.

مرت سنةٌ وخمسة أشهرٍ على تلك الليلة التي ضاجعته فيها بكلّ ما أوتيت من غضبٍ وحزنٍ وذهول، وعلى نفس الملاءة الصفراء. بكل ما حملته من غريزة الحيوان امتطته وتركت له جسدها ليمتطيها. عضّت شفتيه وغرزت أظافرها في جلده، صرخت حين ولجها. تلك الليلة، كانت تسعة أشهرٍ قد مرّت على وجودهما معًا.

تركّز هي في التواريخ والذكريات، وفي الكلمات. تتمنى أحيانًا لو أنها لا تذكر، لو أنها حقًا تنسى أعياد الميلاد وتواريخ المحادثات والزيارات والقبلات المسروقة والمواجهات البائسة؛ تحملها حجرًا ثقيلًا على صدرها. تتمنى حقًا لو أنها تفقدُ تلك الكلمات التي صادفتها يومًا. كلماتٌ كثيرة، كلماتٌ يومية، كلماتٌ بخط اليد، كلماتٌ من نرجسيةٍ صافية تروي تفاصيل خدعة كبيرة. الكلمات تصنع جملًا، والجمل تنحفر على عدستي عينها، وتحملها كحائط صدّ ضد كل محاولات النسيان.

كان هو يذكر أيضًا. كان يذكر ما يريد، ولا يحتفظ بالذكرى لنفسه. كان يذكر، ويفرض الذكرى عليها. يعيدها مربعاتٍ إلى الوراء. عليها أن تذكر. عليها أن تظلّ هنا أمام مرآتي المفضّلة ريثما أخرج في رحلات صيدي الطويلة ثم أعود نظيفًا كأن ما جرى شيء.

تسترجع تلك الليلة بوضوح في ذاكرتها الآمنة الآن، لم يعد هناك ليُقحم ذكراه عليها. تلك الليلة، كانت تسعة أشهرٍ مرّت على وجودهما معًا. كان يَلجها وكانت تذوب في الذكرى كحضنٍ أخير قبل وداع مهاجرٍ لن يعود. كان يَلجها، وكانت تكرّ الأيام في رأسها. كرّت المرّات الساحرات، الرسائل والهدايا، تجاربها لقمصان النوم الخليعة، زوايا البيت جميعها التي عرفت رائحة الشهوة بينهما. كان يَلجها وكانت تدمع إلى أن انتهى داخلها.

كانت تحبّه، تفكّر اليوم وهي تتحسس تلك الملاءة. كانت تحبّه، وكان يصيبها بالذهول مرّةً بعد مرّةً. كانت تحبّه فتكلّمت بهدوءٍ مدروس. كتبت ما ستقوله في اليومين السابقين. تمرّنت أمام المرآة طويلاً لكي لا تضلّ الطريق.

كان مرتاحاً بعد لهاثٍ على الوسادة. الضوء أصفر خافت، رأسها بمحاذاة رأسه، عيناها تحدقان فيه، يدها ترتاح على بطنه الحبيب، وقطرات العرق تنحدر منهما، بنفس البطء، على الأصفر الممتد تحتهما.

كانت تحبّه فتكلمت بحذر، وكان شاخصًا ومذنبًا فاعتذر. لم تنطق الكلمة حينها. سمّت ما حدث كلّ اسمٍ ممكن عدا تلك الكلمة. أبقتها بعيدةً عن لسانها، قلبها، دموعها، وسريرها، لتبقى هي ويبقى هو. كانت كلمةً واحدةً فقط، لكنها أدركت أن النطق بها سيغير كلّ شيء فصمتت. تلقّت اعتذاره بالدموع. تلقت وعده بالأمل. تلقت قبلاته وولوجه مرّةً أخرى بالسماح. كانت تحبّه فصدقت بالحب أكثر مما صدّقت نفسها. صمتت.

صمتت هي وحاولت معه من جديد. وصمت هو ليحتفظ بصورتهما أمام المرآة أطول وقتٍ ممكن. صمت عن الكلمات المكتوبة فقط. لم يكترث حقًا، كما لم تكترث هي، لقلبها. ولمراتٍ ومراتٍ بعدها، ظلّ يغادر ويعود، ويغادر ويعود، مورّمًا شفتيه بشفتيها، معريًا صدره الواسع المكتنز بالأكاذيب.

الشمس تستوي في السماء خارج نافذتها، والريحانة تطلّ من نفس النافذة عليها، تطلب الماء والعناية، وهي ما تزال تحدّق في المرآة. تنظر للخلخال. تتبع الظاهر من جلدها. القدمان فالساقان فالفخذان. تتخيل الباقي تحت قميص النوم البنفسجي حتى رأس صدرها. وحدها في السرير هذه المرّة. على نفس الملاءة، امرأةٌ أخرى الآن، دون دموع ودون خوف ودون صمت. تتنفس فقط وتفكّر.

مرت سنةٌ وخمسة أشهرٍ على تلك الليلة، ومرت الليالي ليلةً ليلةً على كل ما تلاها. هي الآن بعيدة، تتمدّد في الصباح، وتكتب قصّتها دون حذر. تشعر بالصّدق يملؤها، والتصديق بقلبها شفاؤها.

تكتب قصتها باختصار. لا تحتاج لدلائل أو براهين وقلبها موجود. لا تحتاج للإقناع لتحكي ما عاشته. لن تكفي أية تفاصيل لشرح ما حدث.

تكتب قصّتها بهدوءٍ ورضا. تسميها "خيانة". وتدرك أنها تصنع النهاية اللائقة بكلّ ما حملته من حبّ وكلّ ما أضاعه من أمل.