عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

الثلاثاء، فبراير 28، 2012

ثلج

الميت يرقد هناك
والجميع يرحلون عن ذلك الدير المعلّق على جبل ما من جبال البلد الصغير، المفتت.
وحده يبقى هناك ممسكاً بزمام الوادي الكبير. متحسسّاً بكامل روحه الشمس الجديدة بعد مطر. مريحاً كامل جسده للثلج واستدارة الأكاليل ورسالةٍ من امرأة أتلفه حبها.

الميت يظلّ هناك
وسيلٌ من السيارات المكتظة بمعاطف سوداء يجتاز انحناءات الجبل صعوداً وهبوطاً مطلقاً زفيراً أخير.
الطرقات الضيقة التي تعيدهم لمدينتهم تخبئ شجراً نافذاً من صخر. تخبئ ضوءاً منثوراً. ترمي عليهم صوراً/ذاكرةً مع ندف الثلج.
تقرصهم ببطء.
تولد أفكاراً وأحاديث ونقاشاتٍ تبدأ بطقوس الوداع، ثم تمرّ على طباع المودعين، ثيابهم، ضحكاتهم المرّة، لتقفز بعدها إلى تجارة الموتى- توابيتهم، ألوانها، أخشابها، نقوشها، وقبورهم الرخامية.
تتوالى الأحاديث ثم تنقطع وحدها هكذا كما انبثقت إلى صمتٍ. إلى ابتسامةٍ تائهةٍ وبريقٍ في عينيّ امرأةٍ تجلس في المقعد الأمامي لسيارة "غولف" عائدة للمدينة كما الآخرين.

الميت يضحك هناك
الميّت اختلى بالجبل البعيد وتقهقر المودعون إلى مدينتهم أكثر وحدةً.

فرح برقاوي

وادي الكرم، لبنان

- كُتبت في 20/2/2012

السبت، فبراير 18، 2012

غرفة العناية المركزة

رواية كئيبة يا صديقيرواية كئيبة هذي التي تريدني أن أكتب لك رسالة مطوّلةً أو قصيرة عنها. هذي التي أمضيت شهراً كاملاً أحاول إنهاءها. هذي التي أنهتها صديقة أخرى (وخرّيجةٌ مثلي من نفس الكلّية التي نتشاركها مع الكاتب*) في ظرف ازدحامين مروريين داخل شوارع القاهرة. هذي التي تريد قراءتها مرة أخرى. أو أكثر.
رواية من أربعة فصول لا تنتهي ولا تريد أن تتركها. رواية تجري سريعاً. أحداثها نقطة زمنية مطاطية مغمورة بالذكريات. تجري سريعاً ثم لا تلبث تدرك النهاية المقطوعة الأوصال. تقع في شركها. تصل لنقطة البداية من جديد دون أن تنتبه وتقفل الغلاف الخلفي بألم أو خيبة متوقعين. تترك الغلاف مدركاً كم نبشت تلك الفصول وتلك التفاصيل أجزاءً من روحك وبعض حكاياتك التي كنت قد أهلت عليها التراب بنيّة وداعٍ أخير.
رواية جميلة يا صديقيهاتي التي نصحتني بأن أقرأها. هاتي التي تلاحقني في كلّ يوم لتحرضني على إنهائها. هاتي التي تترقب رسالتي لك عنها. أنهيتها اليوم. أرحْتُ الغلاف الخارجي. وقررت أن أكتب ما طلبته وما تطلبه روحي وما تدفعني إليه أصابعي التي احتضنت ذاك الغلاف لشهر وبضعة أيام.
رواية حين تريحها على الطاولة المواجهة لك تؤلمك ذراعك. أجل ذراعك من عند الكتف. تلك الذراع التي شعرت بألمها المتكرر والمخنوق لثلاثة فصولٍ متتابعة لتنتهي للفصل الرابع إلى استراحةٍ غريبة. استراحةٍ مزيفةٍ تعفيك من ألم الجسد لتسلمك إلى ألم الروح. ألم الغربة بأقسى أنواعها، غربتنا داخل أوطاننا. الغربة التي تنخر في العظم ولا تريحك إلا لقبرك أو لهجرةٍ تزرعك في غربة بديلة.
أكذب. أكذب عليك أو عليّ أحياناً. ربما لا تكون غربةً على الإطلاق. أفكر بأن الوطن لم يعد هنا أو هناك. الوطن لم يكن ولن يكون ما علموناه. هو بالتأكيد ليس ما قالوه لنا عنه. ليس تلك الأرض الحارقة للأخضر ولنا. ليس ذلك الهواء الأسود الذي يلطخنا بشكل يومي ويتركنا مصابين بعدوى السقم والذنب والخيبة.
لماذا لا نهاجر؟ لماذا عاد نشأت غالب إلى مصر؟ لماذا لم يدرّس في السوربون ويعطي حبّه لأحدٍ وينجب أطفالاً أجمل منه ومنا؟"عدت، لأن هنا هو المكان الوحيد الذي لا يفترض أن أبرر فيه سبب وجودي. لأني أشعر بأن هذا المكان لي"، يقول نشأت وأضحك بأسىً عليه. يكذب هو الآخر. فهذا المكان هو نفسه الذي وجّه له أقسى اللطمات. هو آخر مكان سيذكره بعد أن تستهلكه الظلمة وانعدام الأوكسجين في احتباسه داخل المبنى المتفجّر.
"يا قاتلة"ترن هذه الكلمة في رأسي. تشوّشني. صداعٌ يكاد يقسمني.
بعد أن تمرّ بصراعات العميد أحمد كمال والصحفي أشرف فهمي ومن بعدهما داليا الشناوي المحامية، كلٌّ منهم ملقياً عليك أسئلةً كثيرةً ونظريّاتٍ عديدة ودروساَ في الحياة وفي الحب والصداقة، يأتي نشأت غالب. يأتي من ظنناه محامياً فاشلاً ليقطع هذه الأسئلة بالنار التي تحرق قلبه. "يا قاتلة". يسلطها بتكرارٍ موجع على داليا، حبيبته السابقة، تلك التي تستولي على كل نسائه وتحلّ محلّهن. وفي نفس الوقت يسلطها عليك. وعلى بلده. تلك القاتلة. تلك التي نحبها وتقتلنا.

رواية ساخرة يا صديقي تسخر منا لما نراه كلّ يومٍ ولا يستوقفنا. تسخر من قصص حبّنا. تسخر من أحاديتنا وافتقادنا لفهم الآخر أو الاستماع إليه. تعرينا. تجلدنا. يجد كل منا نفسه في تفصيلةٍ صغيرة داخلها أو قد تلتبس عليه ذاته في مواجهة إحدى شخصياتها. تجلدنا تكراراً. ينهال علينا الإسمنت مرةً أخرى. تؤلمنا ذراعنا من عند الكتف مرةً بعد مرةٍ. نرى كلّ شيءٍ مرة أخرى. نتساءل عن رجال الإسعاف مرةً أخرى. يغيب عنا الهواء مرةً أخرى، ويدٌ صغيرةٌ تمسك بيدنا مرة أخرى، ثم قفزةٌ شاسعةٌ تنتشلنا من سوادنا مرة أخرى، وينفتح باب المصعد ليكشف عن وجه حبيبتنا، مدينتنا، غربتنا، ومشاكلنا، قبل أن ننهال على أنفسنا ونتدحرج للقاع مرةً أخرى.
أنهيت الرواية أخيراً. ولا أريد أن أعود إليها قريباً. تخيفني هي. كما يخيفني السؤال التي تركتني هي له قبل أن أترك غلافها الخلفي لهدأةٍ يستحقها. ماذا عنّا يا صديقي؟ كيف نواصل العيش في غرفة العناية المركزة؟

فرح برقاوي
بيروت
*رواية غرفة العناية المركزة للكاتب د.عز الدين شكري فشير، دار الشروق، 2011

السبت، فبراير 04، 2012

تأملات في الخراء

لا بُدّ وأنني في كل مرة أشدّ فيها على مقبض السيفون بعد إحدى جلسات التأمل أتنهد.

لا بُدّ وأنني أفكّر ككل مرةٍ بما حدث. بكم الخراء الذي انفلت من جسدي أو الذي عملت جاهدةً لدقائق لا أعدّها على طرده مني.

لا بُدّ وأنني أحدق به لبضع ثوانٍ قبل أن أطلق للسيفون العنان معلنةً خلاصي التام من كل ما كان فائضاً/ضاراً/مزعجاً/خانقاً/مُلحّاً داخلي.

لا بُدّ وأنني أنظر لحجمه وهيئته وأحاول تذكر ما أكلته في الليلة السابقة أو التي سبقتها لأجد تفسيراً للصورة المترامية أمامي في قاع كرسيّ الحمام الأجوف.

لا بُدّ وأنني في كلّ ثانيةٍ من تلك اللاتي تعبرن بين لحظة القبض على القطعة الحديدية أعلى خزان المياه وبين اختفاء صوت اندفاع وانحسار الماء في قاع الكرسي، لا بُدّ وأني أمارس فنّ الدعاء النادر لكي يبتلع الكرسيّ وجميع أنابيب الصرف الصحيّ هذا الخراء الخارج مني بشكلٍ كافٍ دون أن يتركوا أي أثر.

بالأحرى، أنا أدعو هذا الكرسيّ العجيب ليشدّ من همّته، لأن يشحذ جميع قواه، لأن يمارس سحره ويخلصني أنا ومن حولي من هذا الخراء الكبير الذي خرج ليقبع مقابلي في درجةٍ ملاحَظةٍ من التحدي.

لا بُدّ وأنني في كلّ مرةٍ أيضاً أرسل نظرة ساخرة قبلما أمدّ يدي إلى المسكة الحديدية. نظرة ساخرةٍ أو نظرة إدراكٍ في لحظةٍ جِدُّ حقيقية. نظرةٍ لهذا الخراء ولنفسي ولتحولاتي من بعده. نظرةٌ تغدو فكرةً أو تفكّراً في الخراء الأصيل. الخراء الحقيقي الكامن في أجسادنا. الخراء الذي لجبروته بِتنا نراه أو نحسه أو نعيشه كلما ضقنا بفكرةٍ أو عاطفةٍ أو شخصٍ أو مكانٍ أو صورةٍ أو صوتٍ أو رائحةٍ أو قائدٍ أو قضيّةٍ.

لا بُدّ وأنني أرسل نظرةً هازئةً أو نظرة إدراكٍ لأنني في كل مرة أقترب من الإيمان بأن الخراء برغم جبروته ضعيفٌ. ضعيفٌ بكل ما يفوح به، بكل ما ينقله من أمراضٍ، بكل ما يؤلمنا به بعض الأحيان. الخراء ضعيفٌ لأنه خسر المعركة، لأننا مستعدون لبذل جميع السبل للفظه دون توانٍ أو تخاذل أكثر من أي شيءٍ في حياتنا. ربما.

الخراءُ مريحٌ. فهو إن أصبح خارجنا تغدو الحياة متاحةً. الخراءُ جميلٌ.

أفكّرُ بأنني في كلّ مرةٍ أرسلُ ابتسامةً راضيةً. أقول لنفسي بأنّ الخراءَ جميلٌ فهو يفاجئنا كلّ مرة مثل النشوة حين تحاصرنا وتفرج عنّا في بضع ثوانٍ. بأنّ الخراء هو الآخر غريزيٌّ حميم وأنه علينا أن نحبّه أكثر.

فرح برقاوي

بيروت