نشرت هذه المقالة بالعربية على موقع مدى مصر بتاريخ 8 مارس2017
عدت لبيتي بعد أن أوصلتها إلى المحطة الأولى في طريق عودتها لبيتها.
كلتانا تحبان صُنع البيوت، كلتانا تحتفظان بأصغر الأشياء، تقتنيان الشمع،
تأكلان ما أعشب في الأرض، كلتانا تحبان الحياة، بل تقاتلان من أجل الحياة.
لا
نحب هذا الوداع، فبيتها الصغير كبيتي، ليس في الشارع المقابل، ولا في الحي
المجاور، ولا حتى في المدينة الصغيرة على بعد ساعتين أو ثلاث. بيتها هناك،
حيث ينصبّ ظلم العالم كله على الحدود وما وراءها بلا هوادة. بيت أمي هناك،
في الطابق الخامس من إحدى بنايات شارع اللبابيدي في غزة.
قبلها
بعدّة ساعات، كنت تحت الماء الساخن أتأمل بصمت زجاجات الشامبو المصطفة على
طرف الحوض. لملمنا كل الأشياء وضغطنا الحقائب لتسع أغراضها القديمة
والجديدة. لم يتبق سوى زجاجات شامبو الأطفال الذي تستخدمه؛ لن تأخذها معها.
فكرت بأن ذلك أفضل، سأذكر أمي في الأيام القادمة كلما فاحت رائحة الصابون.
وَصلَتْ
أمي القاهرة منذ شهر وسبعة أيام، بعد سنتين من الغياب. أربعين ساعةً قضتها
بين الانتظار في الباص والنوم على أرض المعبر المصري والتقدم البطيء في
الصحراء والتعطّل المتكرر على الحواجز وعبور النيل نحو المدينة المزدحمة
البعيدة زمنًا وعذابًا (لا مسافةً)، حيث أسكن أنا، ابنتها. ومنذ يومين،
جاءنا الخبر العشوائي دومًا بفتح المعبر، ومعه بدأت طقوس الوداع على عجل.
ليس
للفلسطيني العابر من غزة إلى مصر اختيار متى يسافر ولا متى يصل ولا متى
يودع أو يعود، مصيره معلّقٌ دائمًا في الهواء. ليسافر عليه تسجيل اسمه ضمن
قوائم انتظار طويلة، وترقب دوره، والصلاة للحظة انفراج ما يُفتح فيها
المعبر. وعندها فقط، وإذا كان محظوظًا فأتى دوره وكان اسمه ضمن القوائم
الموافَق على مرورها من قبل الجهة المصرية، واستوفى جميع المتطلبات وأدى
فروضًا باهظة الثمن في أحيان كثيرة، تبدأ رحلته الشاقة؛ يبدأ بالدعاء بأن
تكون الرحلة أقل قسوة من توقعاته والأخبار التي يسمعها عن الطريق، وألا
يضطر للوقوف لساعات على حاجز «الريسة» في العريش وغيرها من الحواجز، وألا
تضيع أشياؤه وأوراقه وتتبعثر في كل مكان نتيجة التفتيش العبثي المتكرر.
وأخيرًا، وبعد ساعات طوال، يصل المسافر إلى القاهرة أو إلى طائرة ستأخذه
إلى عمل أو علاج أو زيارة مؤجلة للأحبة. وحين يريد العودة، لانقضاء حاجته
من السفر أو لاضطرار ما، يبدأ الفلسطيني من جديد حالة الانتظار والترقب
والأمل بأن يفتح المعبر. وحين يُفتح أخيرًا، يصلّي هذا المسافر التعس، هو
وأحباؤه على الجانبين، أن يصل غزة حيًا سليمًا يُرزق.
تقطع
خلوتي حين تحدّثني من وراء ستارة الحمام. أبتسم قبل الإجابة على أحد
أسئلتها الكثيرة وغير الضرورية في الكثير من الأحيان. لا تزال بيننا تفاصيل
حيّة من علاقة أم بابنتها، لا تزال رائحة عيشنا المشترك القديم قادرة على
الانبعاث بين الفينة والأخرى، لكن ذلك لا يشفي ما فقدناه في سنوات البعد
الطويلة منذ انتقلت للعيش خارج غزة، وتحديدًا في السنتين الماضيتين، حين لم
نتمكن من اللقاء بسبب إغلاق المعبر لفترات طويلة، وصعوبة الطريق، وضياع
فرص الخروج النادرة، وارتباطي بالعمل حيث لا يمكنني أن أخاطر بالسفر
والغياب لأشهر حتى يُفتح المعبر فأخرج من جديد.
في
البُعد، نكون امرأتين مستقلتين في بيتين منفصلين. تختفي موازين القوى
وعلامات التاريخ. تعيش كل واحدةٍ في عالمها الخاص، تغوص في تفاصيل عملها،
تنسج علاقاتها، تحتفي بنجاحها وتراجع مواضع فشلها، تبني أفكارها ونظرياتها
عن العالم والنسوية والمجتمع، وتهتم بقلبها. وفي المساء، ترسل كلٌ منا صورة
أو رسالةً قصيرة تطمئن بها على الأخرى في الجهة المقابلة.في اللقاء،
المفاجئ طبعًا بسبب ظروف المعبر، تنكشف مساحة الاختلاف، وينمو الارتباك في
محاولة استعادة مؤقتة وغير محددة المهلة لما نذكره عن العيش المشترك
والطابع الحسي للأمومة والبنوّة. ندور حول البيت وحول بعضنا البعض بحركاتٍ
سريعة متخبطة كلعبة الكراسي الموسيقية، بانتظار صافرة النهاية لتجلس إحدانا
وترتاح.
"إن تجودي فصليني أسوة بالعاشقين، أو تضنّي
فاندبيني في ظلال الياسمين"
منذ رجعت إلى البيت وأنا أدندن الأغنية، مستعيدة
الساعات القليلة السابقة. صباح السفر تركتني أمي أوضّب حقيبتها، في اعتراف
ضمني بمهارتي المتراكمة عبر سنوات من السفر والارتحال بين المدن والبيوت.
جلست هي على الكنبة تكمل الصفحات المئة الأخيرة من رواية واسيني الأعرج
الضخمة التي اشترتها من معرض الكتاب، وجلستُ بجانبها أرد على بعض الرسائل.
حدّثتها لأول مرة منذ أتت عن نيتي في الكتابة أكثر. راجعنا خطوات اليوم حتى
لا ننسى شيئًا، ثم طلبنا السمك المشوي، وأثناء انتظار وصوله استمعنا لصباح
فخري يغني. ضحكنا كما كنا نفعل منذ طفولتي على فيديو له وهو يرقص في منتصف
الأغنية، ثم بدأنا بالرقص معه. رقصنا سويةً لأول مرة منذ حضرت في احتفاء
مكتوم؛ مهارتنا في الرقص لم تتأثر بالبعد إذن. الرقص أيضًا لا يزال يجمعنا.
الشهر
المشترك لم يكن سهلًا. في كل مرة نفترق تبعد المسافة أضعافًا، نكبر في
البعد أكثر. وهذه المرة كانت الأصعب بعد سنتين من الغياب. أمي كبرت، وأنا
كبرت أيضًا. خذ امرأتين قويتين تعيشان بمفردهما، واحدةً في الستين والأخرى
في الثلاثين، ضعهما في بيتٍ من غرفةٍ واحدة، بشكلٍ مفاجئ ودون مدة محددة،
وانظر ما سيحدث.
في البدء اختبرنا مجموعة من المشاحنات
اليومية المكثفة. كنت – ولا أزال – أستغرب من بعض ما تقوله أو تصنعه أمي،
من هذه المرأة الستينية في مطبخي؟ في غرفتي؟ أمام مرآتي؟ متى أصبحت تحب
المربّى بهذا القدر؟ بلا شك استغربتني هي أيضًا، وإن لم تعبر عن ذلك بوضوح،
فمتى أصبحتُ أكره نور النيون لهذه الدرجة؟ لماذا لا أحب المربّى؟ تنازعتني
نفسي بين الاختناق من الضيق المفاجئ في المساحة الشخصية وبين طاقة الحب
والحنان التي أضاءت قلبي. ولم أنفك عن التعجب والإعجاب والاستفزاز في آن
واحد من كم التشابه بيننا.
لقاؤنا بعد غياب أشبه بعملية
استعادة جزئية بعد فقد، يتخللها بالضرورة بعض الحداد. في المسافة لا ندرك
بالضبط ما الذي فقدناه، المحادثات الهاتفية والصور والرسائل القصيرة لا
تكشف المتسرب من الأوصال. يخدعنا التواصل الإلكتروني، أما اللقاء فيعرينا
ويعري كل ما جرّبنا، بوعي أو دون وعي، أن نخفيه عن الآخر.تمضي الأيام
الأولى مع أمي في حالة حداد، إنكار وغضب ونشوة وفرح مفاجئ يليه حزن وتخبط.
لكن مع الوقت – إن حالفنا بعض الحظ – نستعيد بعض الهدوء وننتقل ببطء لحالة
القبول: قبول الفقد، قبول تقدّم العمر، قبول الاختلاف، قبول الطريقة
الجديدة في العيش، قبول القرب الشديد والشفافية، مع الهشاشة التي تصاحبه،
وقبول علاقة الأم والابنة من جديد. يغدو هنا الحديث أكثر انسيابية، ويصبح
العيش المشترك أقل ضغطًا، والطبخ المشترك أكثر متعةً. شيئًا فشيئًا، تبدأ
كل واحدة برسم منطقتها وفهم منطقة الأخرى، نبدأ بإعادة الاكتشاف.
إلا
أن الوقت دائمًا ما ينتهي قبل أن نصل إلى نقطة «العادية»؛ تعلن السلطات
المصرية فجأةً عن فتح المعبر، ويحدث هذا دومًا قبل أن نعتاد تمامًا على
الترتيب الجديد، أو المستعاد، بلحظة واحدة. تنتهي حالة الاحتفال والحداد
والتعوّد، تختفي الأيام الماضية ويختبئ القلق من الأيام القادمة ولا يتبقى
لدينا سوى يوم أخير. امرأتان، صديقتان، أم وابنة، وبضعة ساعات لاكتناز الحب
والرقص والأكل والموسيقى والأحاديث وحزم الحقائب.
فجر
البارحة، قطعت أمي الصحراء الخطِرة من جديد لتعود إلى منزلها في غزة. ستغرق
من جديد في روتينها وعملها الذي ستتمسك به حتى آخر لحظة من عمرها، فهي لا
تعرف الجلوس دون حركة أو إنتاج. وأنا بدوري، عدت إلى منزلي في المدينة
القاهرة، وسأغرق مثلها في تفاصيل عملي وحياتي، صداقاتي والازدحام وأحلام
السفر وغلاء الأسعار. منذ سنوات، عندما اختارت كلّ منا مدينتها، كنا نعتقد
أننا على بُعد «سفرٍ» فقط، كنا نعتقد أن غزّة والقاهرة هما أقرب نقطتين
لخطّ موصولٍ بيننا. لم نكن نعلم ما ينتظرنا من مسافات مضاعفة وتعقيدات
سياسية وطوابير انتظار وتنسيقات ومخاطر طريق.
اليوم هو
الثامن من مارس. أفكر أن المعبر انفتح في وقت مناسب لتستيقظ أمي في بيتها
وتشارك في احتفالات وأنشطة يوم المرأة العالمي كما تفعل كل سنة. بعد شهر
منقطع عن العمل أتخيل صوتها الذي تربيتُ عليه، يصدح في الندوات والاجتماعات
والشجارات والحملات المدافعة عن حقوق النساء.
أما أنا،
فاستيقظت اليوم وحدي دون صوتها وحركتها، أعددت الفطور الذي أحبه، وغيّرت
ملاءات السرير، وجلست أكتب هذا النص، تتنازعني نفسي بين ثقل الصمت والوحدة،
وبين الاستقلال بمساحتي الشخصية من جديد، وبين انتظار اللقاء القادم بكل
ما يحمله من شوق وحب وفقد ومواجهة وحداد وإعادة اكتشاف.
هناك تعليق واحد:
أبدعتِ ما كتبت أناملك💛
إرسال تعليق