الأربعاء، ديسمبر 05، 2012
صباح جديد في لشبونة
الجمعة، سبتمبر 28، 2012
أبقى أنا واقفةً، محاولةً، محاولةً مرة أخرى
الأحد، سبتمبر 16، 2012
أسمّيها نجمة أيلول
الثلاثاء، يوليو 10، 2012
قصة قصيرة
خطو مطرٍ مسرعٍ
رقص يمامٍ متعبٍ
بوحٌ يفيض
نظرةٌ في ربيعٍ غريب
سَفرٌ مقدّسٌ
أصابعُ دائخة
قبلةٌ بِكر
سؤالٌ خجول
نظرةٌ في صيف قائظٍ
سفر ٌ دؤوب
عرقٌ مقطّر
بداية القول
رشفةٌ بعد صومٍ صبور
فرح برقاوي
الخميس، يونيو 28، 2012
صباحٌ بأعلام. صباحٌ بغير أعلام.
فرح برقاوي
25/6/2012
الجمعة، يونيو 01، 2012
طقوس المرايا
أمام مرآتي نفسها أقف ثانية
ككل ليلة أعلن نهاية اليوم
أفكّ طوقه مثلما يطلق أحدهم كلبه لمساحات رحبة ريثما هو يتنفس الهدوء والخلوة لقليل من الوقت
أمام مرآتي أحدّق في عينيّ المتعبتين من الشاشة الصغيرة لحاسبي البنفسجي المحمول. أحدق في الحاجبين وارتسامتهما الواضحة. أراهما يشكران لي زيارتي اليوم لـ"ماغي" التي أزالت ما حولهما من شعرات زائدة تغطي على تمايزهما.
أعود مرة أخرى إلى ما تحت الحاجبين. لتلك العينين الحاملتين لمدن كثيرة وحكايات وأخبار. أتذكر كلام أحدهم عن حبه للقصص الذي يكاد يغطي على أي حب. أستعيده يحرضني أن أكتب قصصي تلك التي أجمعها كل يوم/كل مكان/في كل مدينة/مع كل شخص/ومع نفسي. أتذكره وجفناي المتهدلان يكادان ينطقان بقصص اليوم التي حملتها أو علقت بي منذ الصباح دون أن أنتبه لوزنها أو هيئتها أو ما تركته فيّ من رائحة.
أسترجع تلك القصص وأنا في وسط غرفتي محدقةً في المرآة المتكئة على تسريحتي الخشبية الحبيبة. أسترجعها كلها باللون والصوت والحركة والمساحات والأشخاص والثقل أو الخفة اللذان خلفتهما لي. وفي منتصف استعراضي لإحداهن أستوقف شريط الصور، أؤنب نفسي وأعدني بأن لا أعود لفعلةٍ مماثلة، لكنني أعلم كما في كل مرة أنني سأزلّ ثانية وسأعود لنفس النقطة لأفعل نفس الشيء.
الوقت يمضي بتلصص في ساعة اليوم الأخيرة، ولو لم تلتفت إليه لخدعك وجردك من هناء النوم أو الصحو. القصص نفسها جميلة، أحدث نفسي، لكنها هي الأخرى بارعةٌ في اختطافك من مكانك لمكان لا يعني فيه الوقت شيئاً ولا ينتظرك في الصباح التالي فيه وظيفةٌ تبتزّك.
أمام المرآة أتنبه للوقت المباغت وأجدني ممسكة بقطعة قطن مبللة بما تحتويه القارورة الفرنسية من سائل يتدرج لونه بين الشفاف والبرتقالي. أراها تعبر على وجهي كمساحة مفتوحة للتجريف. ببطء تجتاز خدي الأيمن من حدود الشفتين إلى طرف العين لتمسح جبيني بعدها برفق وتنتقل إلى الخد الأيسر. ومن ثم تحطّ عند الرقبة لتزيح بقايا الغلال التي أحكمها اليوم عليّ.
قطعة قطن أخرى تتلوها، مغموسة بسائل أخضر برائحة السوسن تأتي كمنوم مغناطيسي لتتغلغل في أعماق وجهي وتسمح لكل القصص الرابضة هناك بالطيران. تتطاير القصص كلما مرت قطعة القطن بالقرب من واحدة، يتهدل جفناي أكثر استعداداً للاستسلام لهذا الليل وملاءاتي الكثيرة.
أتأكد من وضع "الكريم" على وجهي بعدها. أخبرتني إحداهن مرة أنه هو الآخر بحاجة لغطاء حميم، بحاجة إلى الإحساس بالأمان حتى يقوم أثناء النوم بحراسة الأحلام من أن تطير. بل إنه يغذيها لعلّها تصير في الغد التالي قصصاً جميلة نذكرها بابتسامة عند نهاية اليوم.
أرتب ابتسامتي للنوم، أشم رائحة وجهي والكفين، أودّع مرآتي إلى أن أراها في الصباح جميلة كما غفوت عليها. أسلّم نفسي لخلوة السرير ورحابة الليل.
ثم أنام بعد أن أقول لوجهي بأنني أودعته وجسدي أحلامي كلها، وابتساماتي الآتية كلها، ونظرات الوله القادمة كلها. أسرّ له: كن رفيقاً مخلصاً أيها الوجه العزيز.
فرح برقاوي
كتبت بتاريخ
10/4/2012
12:30 ص
الاثنين، مايو 14، 2012
فلتمت هادئاً مطمئن البال
الموسيقى كُلّها من حولي تقول بأنّك ستموت!
تماماً كما جئت
ستموت وأنت تبعد بضعة مقاعد مطرقاً رأسك، مفكراً
ستموت وحيداً
كما جئت
طفلاً نزقاً
كئيباً
***
سأقتلك اليوم
وأنت بدورك
كما جئت ضعيفاً
خائفاً
بطبيعة الحال
ستموت
فلتمت إذن
هانئاً مطمئن البال
السبت، مايو 05، 2012
لمبنى يتجنّبني وأتجنّبه
فرح برقاوي
الاثنين، أبريل 23، 2012
حدثَ في بارٍ راقٍ ببيروت
فرح برقاوي
الجمعة، أبريل 06، 2012
الثلاثاء، فبراير 28، 2012
ثلج
الميت يرقد هناك
والجميع يرحلون عن ذلك الدير المعلّق على جبل ما من جبال البلد الصغير، المفتت.
وحده يبقى هناك ممسكاً بزمام الوادي الكبير. متحسسّاً بكامل روحه الشمس الجديدة بعد مطر. مريحاً كامل جسده للثلج واستدارة الأكاليل ورسالةٍ من امرأة أتلفه حبها.
الميت يظلّ هناك
وسيلٌ من السيارات المكتظة بمعاطف سوداء يجتاز انحناءات الجبل صعوداً وهبوطاً مطلقاً زفيراً أخير.
الطرقات الضيقة التي تعيدهم لمدينتهم تخبئ شجراً نافذاً من صخر. تخبئ ضوءاً منثوراً. ترمي عليهم صوراً/ذاكرةً مع ندف الثلج.
تقرصهم ببطء.
تولد أفكاراً وأحاديث ونقاشاتٍ تبدأ بطقوس الوداع، ثم تمرّ على طباع المودعين، ثيابهم، ضحكاتهم المرّة، لتقفز بعدها إلى تجارة الموتى- توابيتهم، ألوانها، أخشابها، نقوشها، وقبورهم الرخامية.
تتوالى الأحاديث ثم تنقطع وحدها هكذا كما انبثقت إلى صمتٍ. إلى ابتسامةٍ تائهةٍ وبريقٍ في عينيّ امرأةٍ تجلس في المقعد الأمامي لسيارة "غولف" عائدة للمدينة كما الآخرين.
الميت يضحك هناك
الميّت اختلى بالجبل البعيد وتقهقر المودعون إلى مدينتهم أكثر وحدةً.
فرح برقاوي
وادي الكرم، لبنان
- كُتبت في 20/2/2012
السبت، فبراير 18، 2012
غرفة العناية المركزة
بعد أن تمرّ بصراعات العميد أحمد كمال والصحفي أشرف فهمي ومن بعدهما داليا الشناوي المحامية، كلٌّ منهم ملقياً عليك أسئلةً كثيرةً ونظريّاتٍ عديدة ودروساَ في الحياة وفي الحب والصداقة، يأتي نشأت غالب. يأتي من ظنناه محامياً فاشلاً ليقطع هذه الأسئلة بالنار التي تحرق قلبه. "يا قاتلة". يسلطها بتكرارٍ موجع على داليا، حبيبته السابقة، تلك التي تستولي على كل نسائه وتحلّ محلّهن. وفي نفس الوقت يسلطها عليك. وعلى بلده. تلك القاتلة. تلك التي نحبها وتقتلنا.
السبت، فبراير 04، 2012
تأملات في الخراء
لا بُدّ وأنني في كل مرة أشدّ فيها على مقبض السيفون بعد إحدى جلسات التأمل أتنهد.
لا بُدّ وأنني أفكّر ككل مرةٍ بما حدث. بكم الخراء الذي انفلت من جسدي أو الذي عملت جاهدةً لدقائق لا أعدّها على طرده مني.
لا بُدّ وأنني أحدق به لبضع ثوانٍ قبل أن أطلق للسيفون العنان معلنةً خلاصي التام من كل ما كان فائضاً/ضاراً/مزعجاً/خانقاً/مُلحّاً داخلي.
لا بُدّ وأنني أنظر لحجمه وهيئته وأحاول تذكر ما أكلته في الليلة السابقة أو التي سبقتها لأجد تفسيراً للصورة المترامية أمامي في قاع كرسيّ الحمام الأجوف.
لا بُدّ وأنني في كلّ ثانيةٍ من تلك اللاتي تعبرن بين لحظة القبض على القطعة الحديدية أعلى خزان المياه وبين اختفاء صوت اندفاع وانحسار الماء في قاع الكرسي، لا بُدّ وأني أمارس فنّ الدعاء النادر لكي يبتلع الكرسيّ وجميع أنابيب الصرف الصحيّ هذا الخراء الخارج مني بشكلٍ كافٍ دون أن يتركوا أي أثر.
بالأحرى، أنا أدعو هذا الكرسيّ العجيب ليشدّ من همّته، لأن يشحذ جميع قواه، لأن يمارس سحره ويخلصني أنا ومن حولي من هذا الخراء الكبير الذي خرج ليقبع مقابلي في درجةٍ ملاحَظةٍ من التحدي.
لا بُدّ وأنني في كلّ مرةٍ أيضاً أرسل نظرة ساخرة قبلما أمدّ يدي إلى المسكة الحديدية. نظرة ساخرةٍ أو نظرة إدراكٍ في لحظةٍ جِدُّ حقيقية. نظرةٍ لهذا الخراء ولنفسي ولتحولاتي من بعده. نظرةٌ تغدو فكرةً أو تفكّراً في الخراء الأصيل. الخراء الحقيقي الكامن في أجسادنا. الخراء الذي لجبروته بِتنا نراه أو نحسه أو نعيشه كلما ضقنا بفكرةٍ أو عاطفةٍ أو شخصٍ أو مكانٍ أو صورةٍ أو صوتٍ أو رائحةٍ أو قائدٍ أو قضيّةٍ.
لا بُدّ وأنني أرسل نظرةً هازئةً أو نظرة إدراكٍ لأنني في كل مرة أقترب من الإيمان بأن الخراء برغم جبروته ضعيفٌ. ضعيفٌ بكل ما يفوح به، بكل ما ينقله من أمراضٍ، بكل ما يؤلمنا به بعض الأحيان. الخراء ضعيفٌ لأنه خسر المعركة، لأننا مستعدون لبذل جميع السبل للفظه دون توانٍ أو تخاذل أكثر من أي شيءٍ في حياتنا. ربما.
الخراءُ مريحٌ. فهو إن أصبح خارجنا تغدو الحياة متاحةً. الخراءُ جميلٌ.
أفكّرُ بأنني في كلّ مرةٍ أرسلُ ابتسامةً راضيةً. أقول لنفسي بأنّ الخراءَ جميلٌ فهو يفاجئنا كلّ مرة مثل النشوة حين تحاصرنا وتفرج عنّا في بضع ثوانٍ. بأنّ الخراء هو الآخر غريزيٌّ حميم وأنه علينا أن نحبّه أكثر.
فرح برقاوي
بيروت
الاثنين، يناير 30، 2012
الصوت يحيط بي من كلّ جانب
أنا والكأس الحمراء في هذه الفسحة الضيقة المعبأة بالدخان
بعضه يُنفث في وجهي أو شعري من المحيطين بي
لكننا وحدنا. أنا والأحمر الذي روى "مارك" مدير المكان قصة عنه عندما كنت لا أستمع حقاً.
وحدنا أنا وهذه الكأس، نمتص بعضنا، نشتفّ مزازتنا، كلّ منا يترك في الآخر نَفسَه، يرسله لبرهة ويعود.
الصوت يحيط بي من كلّ جانب
الصوت يتصاعد في هذه الفسحة الضيقة كلّما ضرب "موريس" بإصبعه على اللوحة السوداء مقابله هناك في الزاوية. اللوحة ليست سوداء تماماً، أراه ينحني بصدره على أزرق وأحمر أيضاً. ومع كلّ انحناءة، مع كلّ اهتزازة جسد، مع كلّ نقرة يد أو نبضة موسيقى أنا وهذي الكأس نقترب، نتقارب، نتماهى. تصير أنا.
أصير شراباً أحمر قانٍ للعاشقين على موائد عشاءات تشتعل بالرغبة، بالصمت المربك، بالكلام المربك أكثر، بالنظرات الحائرة والمركّزة في آن، باللمسات المتخبّطة المتعثرة.
الصوت يحيط بي من كلّ جانب
الصوت يعلو/يرتفع/ينبض. كل ما أسمعه هو نبض كأس فيها روحٌ تتقمصني.
أنا هي هاتي الكأس بانحناء أنوثتها، بطعمها المستعصي على الفهم، برقصها في الرأس والجسد.
أنا هي هاتي الكأس الحمراء الساكنة على طاولة في هذه الفسحة الضيقة المحاطة بالصوت الذي يعلو في الرأس ويكبر. المحاطة بالصوت الذي يصبح مهيأً للرقص كما يرقص الأحمر المسافر بين أصابعي إلى شفتيّ المشتاقتين.
الصوت يحيط بي من كلّ جانب
أنا وهذي الكأس وشعري نصبح ثلاثتنا وحدنا. نعبّ من الدخان والصوت المنهالين علينا من كل زاوية. شعري بحلقاته الهائجة يستنفر، يمتص هذه الرائحة المزعجة كما تتنشقها رئتاي المرهقتان. الرائحة المزعجة هذه هي نفسها التي في مطارح أخرى أحبها. أحبّها كما أحبّ جميع الروائح المتناقضة مثلي. أحبّها لأنني أقصدها وأشتمها في كل من أحب أو أنني أحب كل من أشتمها فيه.
الصوت يحيط بي من كلّ جانب
وأنا أفتّش عن علاقتي المبهمة الطويلة بهذا الكائن الذي فتحت عينيّ عليه ولا زلت غير قادرةٍ على الاستقلال عنه.
الصوت يعلو من كلّ جانب
وأنا أرى صوراً متلاحقةً لمراحل عمرية عابرة والثابت فيها هو هذي البيضاء الملساء المحترقة.
الصوت يتوزع في المكان
ونظراتي معه تجسّ الآخرين، تبحث فيهم عن ذائقةٍ تشبهني، عن هوسٍ مثيل، عن متلازمة احتراقٍ أخرى.
الدخان يحيط بي من كلّ جانب
الرائحة المزعجة هذه هي نفسها التي في مطارح أخرى أحبها. أتذوّقها.
نكهة السجائر في القبلة.
أكذب. ربما السجائر الفرنسية.
ربما هذا هو ما أحب وأقصد.
مذاق السيجارة في الأصابع، إطلالتها في الصباح وجلستها التي تفيض بالإغراء بين أصابع من نريد.
هاتي الجلسة تدعو للغيرة الحمقاء. هاتي الجلسة التي لو صاحبتها الكأس الحمراء الساكنة فيّ لتفتحت كل مسام الفسحة عن رائحة حب طري.
وما زلت أفكّر. وما زلت أجرّب. لكن
الصوت يخفت من كلّ جانب
اهتزازات الجسد تنطفئ
أعقاب السجائر تنزوي
الدخان ينقشع من كلّ جانب
الأحمر يتسرب من هذي الكأس التي تتسرب من يدي
أنا وشعري نصبح اثنين وحدنا
أنا وشعري نقترب، نتقارب، نتماهى، نصير أنا.
نبتسم. نعود للبيت وحدنا.
فرح برقاوي
بدأت في 17 كانون ثاني 2012
بيروت، لبنان
الاثنين، يناير 16، 2012
في يوم أحد اعتيادي
أحس بالاختناق
قبضة ملطخة بكل قذارة الأرض تلتف حولي. هذا الثعبان المباغت المتسلل انقض علي. أراه يدور، بادئاً من قدمي، يتسلقني، يغطيني، يعتصرني، يجتث كل طاقةٍ للبقاء فيّ، يعريني من علامات الروح، أراني أموت.
كان يومي هادئاً نسبياً، غائماً جزئياً. كان يوم أحدٍ اعتيادي، يبدأ بالاستيقاظ في العاشرة صباحاً، قراءة بعض الصفحات من رواية "غرفة العناية المركزة" التي بدأتها منذ عدة أيام، التمدد لنصف ساعة بجوار دفء "ك" والحديث عن آخر المستجدات الحياتية والعاطفية مع بعض المواقف الطريفة التي حدثت أثناء أسبوعينا المنفصلين، ثم إعداد القهوة وساندويتش الجبنة الساخن معها واستكمال الأحاديث، والتخطيط ليوم الأحد، اليوم الثاني من كل إجازة أسبوعية في بيروت، لبنان.
غسلت شعري كما كانت تفعل أمهاتنا وجداتنا في الزمن البعيد، مستمعةً لنصيحة الكهربائي الذي أّجّل تصليح سخّان الماء للغد بسبب إغلاق المحلّات التي تبيع قطع الغيار المناسبة، ملقية برأسي بالوضعية المقلوبة فوق حوض الاستحمام أغمره بالشامبو والماء الذي سخن مسبقاً على النار. ثم جهزت نفسي وذهبنا جميعاً لسوق الأحد.
مشينا تحت الغيم وشوادر البلاستيك في الأزقة الطينية لسوق الأحد. توقفنا هنا وهناك لدى المحلات الموشحة بمزيجٍ مبهرٍ من الفقر والقذارة والاحتيال والبضائع الملفتة. كل واحدٍ منا خرج بقطعة ما من سوق الأنتيكا، وأنا عن نفسي اشتريت مسبحة يتدلى منها صليبٌ منقوشٌ بخطوطٍ متجهة من المركز للخارج كشمس تسطع على البشرية الحمقاء، ومفتاحاً قديماً ينفتح على داخله ليصير فتّاحة لزجاجات النبيذ، وقطعة سجّاد صغيرة جداً لا تصلح إلا لتغطي طاولةً جانبية ولا تعجب أحداَ ممن كانوا معي.
لكن الشمس لم تسطع في هذا الأحد الاعتيادي. ظل الجو غائماً رمادياً، وظللنا نحن نحاول أن نقضيه بالتنقل بين جميع الأنشطة التي لا نطرقها عادةً، ذهبنا عند "ماما تيتا" السيدة العجوز التي تعد مناقيش الله في سن الفيل مقابل جامعة الألبا حيث كانت "ك" تدرس سابقاً. دللتنا كما اعتدنا واعتادت، وأكلنا أكلنا حتى أصبحنا بغير قدرة على الحركة، ثم تحركنا عائدين.
ذهبت بعدها لمنزل والديّ صديقة قديمة يسكننان على مقربة لا توصف من منزلي. دخلت عليهما بعد غيابٍ لألقي التحية على أمها المصابة بالبرد قبل أن أتّجه لمنزلي وأذهب مع أصدقائي لحضور حفلة "الفرعي" في زيكو هاوس بالصنايع. دخلت عليهم، وبعد أن جلست قليلاً ذهبت للمطبخ مع الأم لتحضير الشاي، ليجيئنا صوت الأب من الصالة يحدثنا عن خبر عاجل على أحد القنوات التلفزيونية اللبنانية.
"خبر مؤسف بشكل حقيقي" و"من الطبيعي أن يكون الناس المتواجدين مصابين بالفزع" تقول المذيعة. تقول أيضاَ وتذكرنا كل أقل من خمس دقائق بأن قتيلة واحدة كانت هناك، أو كما وصفتها بالـ"البنت الوحيدة الميتة واسمها _ _ _". تسمرت أنا أمام تلك الشاشة التي أكرهها. غارت عيناي وانتصبت أذناي كتلك الكلاب البوليسية التي رأيتها تركض فوق ركام المبنى الذي انهار "بقدرة قادر" وبجميع طوابقه على كل من فيه من أحياء وجماد. المبنى المغدور كان في الأشرفية، بيروت، لبنان. ويضيف أحد نواب مجلس الشعب عن المنطقة حين سأله مراسل القناة بأنه "حزين، فلم يكف هذه المنطقة تعرضها للانفجارات حتى تصاب بفجيعة كهذه وينهار أحد مبانيها"، ويتأسف النائب لضعف قوات الإنقاذ "فليست هذه القوات مجهزة لهكذا كارثة". وأسرح أنا.
عيناي الغائرتان ترحلان لمكان آخر. لزمن آخر. لمشاهد أخرى سمّرتني قبل الآن أمام نفس الشاشة التي أكرهها. رأيتني أمام شاشة تلفازي في منزلٍ صغير كان منزلي في دبي. يناير/كانون الثاني 2009. أحدق في الشاشة وفي الموت حتى أصبحا وجهان لحرب واحدة. أحدق في الشاشة وفي الشخص الجالس قربي، في نفسي، في هاتفي الذي لم يرن والذي لن يرن كما اعتاد كل يوم حين تتصل بي أمي عدة مرات من غزة. أمي كانت بخير، لكنها لم تتصل لأن الكهرباء عزيزة في عمق الحرب، ولأنها لا تستطيع أن تهدر كل ما في هاتفها من طاقة لعلّها تحتاجه إن حلت مصيبة.
أيّ مصيبة؟ أكثر من التي كنت وما زلت أراها نفسها في هذه الشاشة التافهة. أيّ مصيبة؟ أسوأ من أن تجلس محملقاً في الدم وكلّك كلّ الظن بأنك تعرف ما يجري، وبأنّك ممسك بزمام الأمور، وبأنهم سيذكرون اسم من رحلوا، وأنك حتى الآن لم تسمع اسم أحد يخصك لا من قريب ولا من بعيد، إذن فأنت تستطيع النوم كما نمت البارحة، حتى ولو أرقتك الأفكار السوداء لبعض من الليل.
في بيروت تسمّرت. وتذكرت الشاشة التي بغضتها عاماً كاملاً أو عامين. من خريف 2000. كنت في السادسة عشر حين دخلت طائرات الإف 16 الإسرائيلية حياتي. حين عمّت رائحة الموت مدينتنا. حين خرجنا للمدرسة في السادسة صباحاً ودارت الحافلة في شوارع يملؤها الدم والذباب. تذكرت كيف أن وجودي داخل غزة كان مريحاً، خاصة في الحرب، فلم أحتج لشاشات بغيضة لأسمع صوت الطائرة القاتلة. لم أحتج لرنين هاتف يطمئنني على أحد. لم أخف مثلما خفت منذ خرجت منها.
كان يوم أحدٍ اعتيادي، يومي ويوم كل من حولي، ويوم تلك العائلات التي لم تنتشل كلها بعد سواء جرحى أو جثث من تحت مبنى الأشرفية المنكسر. كان يوم أحدٍ اعتيادي حتى صارت الساعة السادسة والنصف، حتى اختنق المبنى بكل من فيه ولم يعد قادراً على الوقوف، حتى نزل عليهم وعلينا وعلى الشاشات التي أكرهها.
تأملت الشاشة طويلاً، أريد الكتابة كنت أحدث نفسي، أريد البكاء، أريد أن أقتل المذيعة أيضاَ، هذه التي تعيد وتزيد وتكرر علينا ما حدث، وتؤكد بأن نقل هذا الخبر حصري لتلك القناة المجيدة. تأملت الشاشة طويلاً وصارحت نفسي، وربما "ك" بأنني خائفة، بأني لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم الليلة في المنزل، هذا الذي لم نهنأ بأي ركن فيه دون الحاجة للتصليح والتصليح وإعادة التصليح.
لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما ينكسر عليّ لركاكة بنائه وطمع أصحابه، وإنجازه "بشلفقة" كما تنجزمعظم الأشياء في بيروت. لا أعرف إن كان سينكسر عليّ لأن مبنى مجاور قيد التعمير قد يؤثر على أساسات مبنانا ويعطيه القدر الكافي من الإزاحة لينهار وتنهار كل خططنا معه، وتضيع كل الأشياء الجميلة التي نحملها للبيت من هنا وهناك لنجعله بيتنا.
لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما هو الآخر لن يكون، كما لم يكن آخرون من قبله، لن يكون البيت الذي أريده أن يكون.
فرح برقاوي
السوديكو، بيروت، لبنان