عبور

عبور
الصورة لسارة بينيو

السبت، مايو 05، 2012

لمبنى يتجنّبني وأتجنّبه


على طاولةٍ متطرفةٍ في الشمس، في يونس الحمراء "الأصلي"، أجلس. تتقاطع في رأسي الأفكار وتهوي من كل صوْب وأنا أحاول التركيز في أمرٍ واحدٍ فقط. التركيز في حسم واحدةٍ من المسائل الكثيرة المزدحمة في رأسي التي تكاد تنفجر بصداعها.

أتململ لثوانٍ، أقلّب في يدي صفحات دفتري الذي أحمله أينما ذهبت، أرفع نظري إلى كوب "اللاتيه" الذي يتناقص ببطء تخميراً لرغبتي فيه. تَطرقُ سمْعي أصوات مجموعةٍ من الشباب على الطاولة المجاورة يتراشقون جملاً بلغةٍ حادةٍ لا أفهمها. يتململون هم أيضاً أثناء حديثٍ غير توافقي.

نظرات بعض المارة وبعض الجالسين من حولي على رصيف أحد الشوارع الفرعية في بيروت ترتطم بي. أرتبك وأُشيحُ بنظري وكأني كنتُ أتلصّص على قصصهم في محاولة لكتابة قصتي أو حلّ مسألتي العالقة.

من طاولتي المتطرفة في الشمس أرى شجرةً مشذبةٌ أطرافها على شكل مكعب في الزاوية اليسرى لنظري. ومن الجهة اليمنى، أقصاها، يأتي اللون الأخضر الغامق لواجهة محل ثيابٍ للمترَفين. في اليمنى المواجهة تقف بناية بيروتية بشبابيك خضراء هي الأخرى، يطلّ من شرفة الطابق الثاني فيها اصطفاف عشوائي لنباتات منزلية، وتذكرني بشرفة أمي "الحديقة" في منزلنا الأول بمخيم اليرموك بدمشق.

تتركز عيناي على المبنى المرتفع الذي ينتصف مدى بصري. لا تفصلني عنه سوى أسلاكٌ كهربائية كثيرة على شكل أقواس في جميع الاتجاهات بادئةً من عمود على يميني. أحملق في المبنى الكبير المليء بالشقق الفارغة والشبابيك المفتوحة عن غبارٍ كثيف. غبار في كل مكان، على حوائطه البيضاء غبار قديم يمتد إلى التفاصيل التي تزين حوافّ شرفاته بشكل زهر الياسمين المتشابك. وعلى الستارة الوحيدة المعلقة على شرفة في الطابق السابع غبار.

على الطابق الثالث هناك علامةٌ خادعةٌ على الحياة. لوحة تسويقية بلاستيكية في ثلثها الأيسر يظهر شاب بصدر عارٍ. إلى جواره في المنتصف شابة تجلس بسروال ضيق مخطط كجلد النمر، فاتحةً ساقيها، كاشفة بطنها، لا نرى وجهها. إلى جانبها صورة ملونة (بعكس السابقتين) لطفلٍ أشقر بعينين ملونتين مطبوعةً على خلفية صفراء. التخمين الممكن للغرض من اللوحة هو وجود استديو للتصوير الفوتوغرافي، لكنه لا يمكن الجزم بذلك من موقع جلستي.

لا يربطني بهذا المبنى شيء.
بل يربطني به كل شيء. فهنا، وفي أحد الطوابق العلوية للمبنى المغبّر سكنت أمي إلى أبي أول مرةٍ. هناك في الأعلى كانت شقتهم الأولى حيث كان الحبّ لا يزال حيّاً.

أذكر أمي تماماً حين جلسنا سويةً في نفس هذا المقهى منذ عامين. أذكر عينيها اللتين ورِثت بعضهما وهي تخبرني دون اهتزازٍ تام بأنها أحبّته وسكنته يوماً. أذكرها، وأذكر كلّ مرةٍ أخبرت فيها أصدقائي الجدد هنا عن تلك الشقة التي سكنها والدَيّ مرةً. أظن بأنني كنت حارّة أكثر من أمي صاحبة الخبر الأساسي، في محاولة لرمي جذور ما لي في هذه المدينة. تاريخٌ لي يسبقني إليها.

لكن، لا يمكن أن يربطني بهذا المبنى شيء. أراجع نفسي مرةً أخرى. لا يمكن لهذا المبنى المغبّر الخالي من الحب أن يكون قد شهد على عشق اثنين في أحد الطوابق العلويّة.

أو ربما، يربطني بهذا المبنى العاجز عن الحب منذ زمنٍ، كل شيء.


فرح برقاوي
(مقهى يونس، الحمراء، بيروت)

هناك تعليق واحد:

دانة يقول...

أسلوبك جدا رائع في الوصف
أحببت النص كثيرا