صباح الخامس والعشرين من حزيران، أجلس على شرفتي أستمع لاستيقاط المدينة. العصافير أولاً، أطياف الشمس، جارٌ خمسينيّ يحضّر سيارة الأجرة قبل أن يذرع شوارع بيروت طلباً للرزق وتزميراً للركاب. راهبةٌ تغادر سكنها المواجه لي وتتجه لكنيستها. رجلٌ سبعينيّ يظهر من طرف الشارع المختبئ وراء الأسمنت، يسير بحذرٍ، يعبر من أمام شرفتي ثم يختفي ثانيةً وراء أسمنت آخر.
سيارات متفرقة تأتي في الاتجاهين لشارع ضيق، ومع كل دقيقة ترتفع الحرارة وينحسر النسيم الصباحي عن حارتنا. جاري يشغّل سيارته ويمضي، باصٌ مدرسي صغير يلتقط ابنة جيراننا من أمام مبنانا، أصغي لحركة الجيران الأولى في الصباح تتسلل من النوافذ والشرفات. على أحبالٍ من شرفات البعض يتدلى غسيل منمق الترتيب والألوان، ومن شرفات البعض تتدلى أعلامٌ كبيرة بارتفاع طابق لألمانيا وإيطاليا تشجيعاً لهما في الدوري الأوروبي لكرة القدم.
لبنان يُجَنُّ بدوريّ أوروبا، المقاهي تكتظ، الأراجيل تزدهر، الضوضاء تتمدد لتشمل أصوات المعلقين والمشجعين، السيارات المحتفلة تملأ الشوارع، الأعلام تُرفع والحياة اليومية تُدهس بين مباراة وأخرى. الأسعار تعتلي السلالم بينما أصحاب المنزل منشغلون بأفراحهم الكرويّة. ليس لبنان وحده مصاباً بهذا الهوس أعرف، لكنني صدمت به، ربما لصغر مساحة البلد التي تكاد لا تتسع لأعلامها فكيف بأعلام الفرق الأوروبية المنتشرة. ربما استأت لندرة الأماكن التي بإمكاني الجلوس فيها مساءً دون صوت مصاحب لمعلّق كروي متحمس ودون صراخات الزملاء الجالسين على الطاولات المجاورة.
أدهشني الأمر حيث وأثناء النشوة بأهداف المرمي الأوروبي، كان فلسطينيو مخيم نهر البارد أهدافاً لنار الجيش اللبناني. وحين تنبّه جمهور مخيم عين الحلوة، دخلوا دوريّ النار كذلك ليرمي ضابط جيش هاج بذعره فتى في السابعة عشر برصاصة اخترقت رقبته التي خرج ذاك اليوم يُعليها ضد الظلم والتمييز.
حزيران والدوري الأوروبي يناسبان بيروت ولبنان كثيراً. حزيران الشهر المؤلم الحامل لذاكرة تأبى أن تُنسى، يحاصره الدوري الأوروبي فيحوّل ذكرى الاجتياح الاسرائيلي لبيروت (4 حزيران 1982) وذكريات مجازر عدة إلى حفلٍ بنصر فريق كرويّ. وبينما تتأرّق جماجم شهداء مخيم تلّ الزعتر يوم الثاني والعشرين من الشهر الأرعن، تصحو هتافات وتصفيقات الجمهور اللبناني وكذا العربي على هدفٍ حطّ في مرمى.
أفكّر بأن حزيران والدوري الأوروبيّ يناسباننا نحن العرب، فتمر على شبابنا انتخابات مصر عبوراً، وأرقام الأطفال المقتولين بسوريّا تضجرنا، وصواريخ العدوّ الصهيونيّ على غزّة لا تُسمع إلا في غزّة، وصباح السودان يطلع وحده. ونحن أمام الشاشة الخضراء، نرى الفرق الأوروبية تتصارع على إثبات أن كرتها هي الأصوب. نرى دفقاً من التوستيسترون ينتشل أجساد فتيات اليورو الحسناوات ويلوح بقوّة الرجال في الملعب. دفقٌ من التوستيسترون العربي يُنفق يومياً ودفقٌ من الدم العربي ينزف يومياً بحياء وصوت واطئ لئلا يزعج المشجعين.
في السابعة صباحاً، الحي الذي أقطنه يستيقظ أكثر فأكثر، المارّة يتكاثرون، السيارات، القطط الجائعة، بائع الخردوات، بائع الكعك، دالية العنب على سطح الجيران، الحمام على أسلاك الكهرباء. نسيم الصباح ينحسر أكثر، ومعه حركة الأعلام الأوروبية وغسيل الجيران المنتظم الصفوف.
تحين موعد حركتي أنا أيضاً، أغادر شرفتي وأعدُ صباحي بأنه في يومٍ قريبٍ جداً سيطلع، ويعيد المشهد نفسه، بالترتيب نفسه، لكن دون أعلام ضخمة تحجب الشمس عن حارتنا.
فرح برقاوي
كتبت يوم الاثنين
25/6/2012
25/6/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق