جلسنا هناك، في قاعة الفصل البعيد، كنا معاً وحيدتين في مدرسة غريبة ولا أدري حقاً ما الذي دفع كلتينا لترك "دير اللاتين"، المدرسة التي كانت محطتي الثانية في غزة بعد العودة، والتي لم تعرف دينا غيرها منذ الصغر
أذكر، جلسنا في حصة الرياضيات – في المدرسة الجديدة الغريبة- كنا قد تآمرنا على الزمن واعتمدنا على أنفسنا في إنهاء منهاج المادة قبل أن يبدأ العام الدراسي. ربما كان الملل، وربما كان غرور الواثق من قدرته على التعلم بنفسه دون مدرس هو من دفعنا لفعل ذلك. وهكذا فقد كانت حصص الرياضيات على مدار ذلك العام حصص راحة واسترخاء، مرة أمضيها في الكتابة، ومرة هي ترسم، حتى أننا غفونا على مقعدنا في إحدى المرات ولم نستيقظ إلا على صوت ضحك الطالبات الأخريات على محاولة معلمتنا الفاشلة في إيقاظنا
لطالما كان غريباً على من عرفنا – وتحديداً على هيئة التدريس الموقرة في المدرسة الغريبة الجديدة- كيف نكون ونحن طالبتان متفوقتان تتنافسان، كيف نكون صديقتين! حيرهم هذا الأمر حقاً حتى أن مدرس الفيزياء قرر أن يجلسنا في أماكن مختلفة في إحدى الاختبارات الشهرية ليتأكد بنفسه أن صداقتنا هذه ما هي إلا تواطؤ للغش، وللأسف فقد خاب أمله لأنه ورغم البعد بقيت إجاباتنا متشابهة وحتى خطوط أقلامنا
اليوم أهديها القمر، وكلماتٍ ربما لم تتسع دقائق الهاتف المعددودة ولا الأيام لقولها
كنّا صديقتين، أجل يا صديقتي كنّا معاً، ورغم اختلافاتنا الكبرى، ورغم قسوة غزة لم نسمح للفراق أن يحدث صدعاً بيننا. كنتُ هناك عندما غطت دموعكِ هيكلي، واحتضنتك بكل ما أوتيت من حبٍّ ودمدمت لك بعض الترانيم لتهدأي. كنّا رفيقتين، وقد اعتدت أن أغني وتنصتي، وكم من الوقت أمضينا بأحاديث الهاتف المعلّقة التي لا تنتهي إلا بنداء من أحد أبوينا للتوقف عن ثرثرة لا تنام
معاً كنّا، وعندما غيرت رأيك في أن تصبحي طبيبة وبقيتِ في غزةَ لتدرسي هندسة البرامج، وذهبت وحدي لمصر لأدرس كما نصح أبي علم الاقتصاد، ابتعدتُ .. وابتعدتِ، لكننا لم نفترق. حتى عندما لم أستطع لقائك في تلك الزيارات القصيرة .. كنتِ معي
كنّا صغيرتين.. نعم صغيرتين وكبرنا معاً في ذلك الصف البعيد، وكنتِ صورةً عليا، كنتِ الهادئة الكتومة للسّر، وكنتِ صديقتي التي حلمتُ .. كثيراً حلمتُ بأن أراها في ثوبها الأبيض وأرقصَ بكل ما أوتيتُ من فرحٍ في يومها الأجمل
أحببتكِ بكل برائتي وحملتكِ في القلب والذاكرة، وأذكر يوم أرسلت لي كلماتك "باركيني، عُقد القرانُ، ولبست الخاتمَ المسحورَ" تسارعت دقات قلبي وارتجفت دمعةٌ في الأفق. لم أدرِ يومها أفرحتُ؟! "دينا" وجدت حبّها أحزنتُ؟! دينا لم أكن معها
واليومَ أزهرتِ .. اليومَ رأيتكِ مجلّلةً بالأبيض .. مزهوّةً بعنفوانكِ الطازج. اليوم لم أركِ .. اليوم أغمدت غزةُ سكّينها في حلمي .. لكّنكِ كنتِ جميلةً .. متمسِّكةً بحبِّكِ كما حلمي.. كنتما جميلين معاً وستبقيان
اليومَ .. في يومكِ الأول في عالم الأحلام
كنتُ أريدكِ أن تعلمي: أن دمعةً أخرى قد نفرت لأجلك
فرح برقاوي
السبت
11/8/2007
هناك 3 تعليقات:
علمت دائماً أنك فراشة رقيقة تختبئ وراء وجه القطة المشاكسة .. ربما حضر يوم دينا الكثيرين لكن أحد لم يحتفل بها مثلك ..
ربما اهتموا جميعاً بجمال فستانها و تسريحة شعرها أو راحوا يتهامسون حول فارسها إن كان وسيماً أو خجولاً أو جريئاً.. لكن أكاد أكون متأكدة أن أحداً منهم لم يأبه بأن يراقص فرحتها مثلما فعلت ..
كما دائماً يا عزيزتي رقصتك كانت الأجمل :)
لم أعتقد أن غزة ستقرأني هكذا
لكنني حقاً سعيدة أن غزة حاضرة رغم الغياب
أشكرك كثيراً
أحياناً يكون الحضور أقوى في النفس منه في الأماكن .. في كل يوم تتطور رؤية البشر لمحيطهم، و في كل معلومة جديدة يضيفونها- عن آخر يعنيهم أو لا يعنيهم- تعاد قراءة الحقائق و البشر و الأماكن..
سأهديك نصاً ذكرتني به كلماتك على القراءة و غزة، و كلماتي عن إعادة القراءة :)
http://sama77.jeeran.com/archive/2007/6/244486.html
إرسال تعليق