أحس بالاختناق
قبضة ملطخة بكل قذارة الأرض تلتف حولي. هذا الثعبان المباغت المتسلل انقض علي. أراه يدور، بادئاً من قدمي، يتسلقني، يغطيني، يعتصرني، يجتث كل طاقةٍ للبقاء فيّ، يعريني من علامات الروح، أراني أموت.
كان يومي هادئاً نسبياً، غائماً جزئياً. كان يوم أحدٍ اعتيادي، يبدأ بالاستيقاظ في العاشرة صباحاً، قراءة بعض الصفحات من رواية "غرفة العناية المركزة" التي بدأتها منذ عدة أيام، التمدد لنصف ساعة بجوار دفء "ك" والحديث عن آخر المستجدات الحياتية والعاطفية مع بعض المواقف الطريفة التي حدثت أثناء أسبوعينا المنفصلين، ثم إعداد القهوة وساندويتش الجبنة الساخن معها واستكمال الأحاديث، والتخطيط ليوم الأحد، اليوم الثاني من كل إجازة أسبوعية في بيروت، لبنان.
غسلت شعري كما كانت تفعل أمهاتنا وجداتنا في الزمن البعيد، مستمعةً لنصيحة الكهربائي الذي أّجّل تصليح سخّان الماء للغد بسبب إغلاق المحلّات التي تبيع قطع الغيار المناسبة، ملقية برأسي بالوضعية المقلوبة فوق حوض الاستحمام أغمره بالشامبو والماء الذي سخن مسبقاً على النار. ثم جهزت نفسي وذهبنا جميعاً لسوق الأحد.
مشينا تحت الغيم وشوادر البلاستيك في الأزقة الطينية لسوق الأحد. توقفنا هنا وهناك لدى المحلات الموشحة بمزيجٍ مبهرٍ من الفقر والقذارة والاحتيال والبضائع الملفتة. كل واحدٍ منا خرج بقطعة ما من سوق الأنتيكا، وأنا عن نفسي اشتريت مسبحة يتدلى منها صليبٌ منقوشٌ بخطوطٍ متجهة من المركز للخارج كشمس تسطع على البشرية الحمقاء، ومفتاحاً قديماً ينفتح على داخله ليصير فتّاحة لزجاجات النبيذ، وقطعة سجّاد صغيرة جداً لا تصلح إلا لتغطي طاولةً جانبية ولا تعجب أحداَ ممن كانوا معي.
لكن الشمس لم تسطع في هذا الأحد الاعتيادي. ظل الجو غائماً رمادياً، وظللنا نحن نحاول أن نقضيه بالتنقل بين جميع الأنشطة التي لا نطرقها عادةً، ذهبنا عند "ماما تيتا" السيدة العجوز التي تعد مناقيش الله في سن الفيل مقابل جامعة الألبا حيث كانت "ك" تدرس سابقاً. دللتنا كما اعتدنا واعتادت، وأكلنا أكلنا حتى أصبحنا بغير قدرة على الحركة، ثم تحركنا عائدين.
ذهبت بعدها لمنزل والديّ صديقة قديمة يسكننان على مقربة لا توصف من منزلي. دخلت عليهما بعد غيابٍ لألقي التحية على أمها المصابة بالبرد قبل أن أتّجه لمنزلي وأذهب مع أصدقائي لحضور حفلة "الفرعي" في زيكو هاوس بالصنايع. دخلت عليهم، وبعد أن جلست قليلاً ذهبت للمطبخ مع الأم لتحضير الشاي، ليجيئنا صوت الأب من الصالة يحدثنا عن خبر عاجل على أحد القنوات التلفزيونية اللبنانية.
"خبر مؤسف بشكل حقيقي" و"من الطبيعي أن يكون الناس المتواجدين مصابين بالفزع" تقول المذيعة. تقول أيضاَ وتذكرنا كل أقل من خمس دقائق بأن قتيلة واحدة كانت هناك، أو كما وصفتها بالـ"البنت الوحيدة الميتة واسمها _ _ _". تسمرت أنا أمام تلك الشاشة التي أكرهها. غارت عيناي وانتصبت أذناي كتلك الكلاب البوليسية التي رأيتها تركض فوق ركام المبنى الذي انهار "بقدرة قادر" وبجميع طوابقه على كل من فيه من أحياء وجماد. المبنى المغدور كان في الأشرفية، بيروت، لبنان. ويضيف أحد نواب مجلس الشعب عن المنطقة حين سأله مراسل القناة بأنه "حزين، فلم يكف هذه المنطقة تعرضها للانفجارات حتى تصاب بفجيعة كهذه وينهار أحد مبانيها"، ويتأسف النائب لضعف قوات الإنقاذ "فليست هذه القوات مجهزة لهكذا كارثة". وأسرح أنا.
عيناي الغائرتان ترحلان لمكان آخر. لزمن آخر. لمشاهد أخرى سمّرتني قبل الآن أمام نفس الشاشة التي أكرهها. رأيتني أمام شاشة تلفازي في منزلٍ صغير كان منزلي في دبي. يناير/كانون الثاني 2009. أحدق في الشاشة وفي الموت حتى أصبحا وجهان لحرب واحدة. أحدق في الشاشة وفي الشخص الجالس قربي، في نفسي، في هاتفي الذي لم يرن والذي لن يرن كما اعتاد كل يوم حين تتصل بي أمي عدة مرات من غزة. أمي كانت بخير، لكنها لم تتصل لأن الكهرباء عزيزة في عمق الحرب، ولأنها لا تستطيع أن تهدر كل ما في هاتفها من طاقة لعلّها تحتاجه إن حلت مصيبة.
أيّ مصيبة؟ أكثر من التي كنت وما زلت أراها نفسها في هذه الشاشة التافهة. أيّ مصيبة؟ أسوأ من أن تجلس محملقاً في الدم وكلّك كلّ الظن بأنك تعرف ما يجري، وبأنّك ممسك بزمام الأمور، وبأنهم سيذكرون اسم من رحلوا، وأنك حتى الآن لم تسمع اسم أحد يخصك لا من قريب ولا من بعيد، إذن فأنت تستطيع النوم كما نمت البارحة، حتى ولو أرقتك الأفكار السوداء لبعض من الليل.
في بيروت تسمّرت. وتذكرت الشاشة التي بغضتها عاماً كاملاً أو عامين. من خريف 2000. كنت في السادسة عشر حين دخلت طائرات الإف 16 الإسرائيلية حياتي. حين عمّت رائحة الموت مدينتنا. حين خرجنا للمدرسة في السادسة صباحاً ودارت الحافلة في شوارع يملؤها الدم والذباب. تذكرت كيف أن وجودي داخل غزة كان مريحاً، خاصة في الحرب، فلم أحتج لشاشات بغيضة لأسمع صوت الطائرة القاتلة. لم أحتج لرنين هاتف يطمئنني على أحد. لم أخف مثلما خفت منذ خرجت منها.
كان يوم أحدٍ اعتيادي، يومي ويوم كل من حولي، ويوم تلك العائلات التي لم تنتشل كلها بعد سواء جرحى أو جثث من تحت مبنى الأشرفية المنكسر. كان يوم أحدٍ اعتيادي حتى صارت الساعة السادسة والنصف، حتى اختنق المبنى بكل من فيه ولم يعد قادراً على الوقوف، حتى نزل عليهم وعلينا وعلى الشاشات التي أكرهها.
تأملت الشاشة طويلاً، أريد الكتابة كنت أحدث نفسي، أريد البكاء، أريد أن أقتل المذيعة أيضاَ، هذه التي تعيد وتزيد وتكرر علينا ما حدث، وتؤكد بأن نقل هذا الخبر حصري لتلك القناة المجيدة. تأملت الشاشة طويلاً وصارحت نفسي، وربما "ك" بأنني خائفة، بأني لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم الليلة في المنزل، هذا الذي لم نهنأ بأي ركن فيه دون الحاجة للتصليح والتصليح وإعادة التصليح.
لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما ينكسر عليّ لركاكة بنائه وطمع أصحابه، وإنجازه "بشلفقة" كما تنجزمعظم الأشياء في بيروت. لا أعرف إن كان سينكسر عليّ لأن مبنى مجاور قيد التعمير قد يؤثر على أساسات مبنانا ويعطيه القدر الكافي من الإزاحة لينهار وتنهار كل خططنا معه، وتضيع كل الأشياء الجميلة التي نحملها للبيت من هنا وهناك لنجعله بيتنا.
لا أعرف إن كنت سأستطيع النوم في هذا المنزل الذي ربما هو الآخر لن يكون، كما لم يكن آخرون من قبله، لن يكون البيت الذي أريده أن يكون.
فرح برقاوي
السوديكو، بيروت، لبنان