لم أقابل جدتي يوماً
ولم أجلس من قبل لأفكر فيها مطولاً. كان رحيلها مبكراً ومفاجئاً لأمي وللعائلة. ولكن، ليس لي ابنة السابعة التي استيقظت يوماً لترى أمها ترتدي الأسود الصامت وتمتنع عن الكحل الجميل.
وأنا أكبر فاجأني وجود جداتٍ للآخرين.. أنهم كبروا وجداتهم على قيد الحياة، كونهم يعرفوهنّ وتذوقوا الحب العابق مع رائحة طعامهنّ. فاجأني هذا الرابط السحري، هذا الحب الآخر. ولم أفهم لم كبرت بلا جدة!
حدثتني أمي الكثير عن جدتي.. عن عينيها الثاقبتين، عن ذاك الشعر الحريري، وعن تلك المرأة التي برغم زواجها المبكر ظلت حالمة، وبرغم الأميّة كانت تهدهد أطفالها في عتمة الليل بسيلٍ من الحكايا وتنظم لهم بعض الأغاني.
تمرّدت أمي على المحتل، احتجزتها آلية القهر داخل المعتقل ثم خارج الوطن، وجدتي ظلت بعينيها تلاحق النهار وتنتظر.
أذكر كم خبرتني عن آخر لقاء بينهما، يومها انسحبت أمي مسرعةً من لحظة وداعٍ لم تعلم بأنها الأخيرة. لم تدرك بأن جدتي لن ترها وهي أمّ.. لن ترني. لم تعتقد بأن جدتي ستسلِّم باكراً لشمس الضحى وتنام.
***
من حين إلى حين يزورني طيفك جدتي.. صورتك التي رسمتها لك من أحاديث أمي وجدي الراحل والخالات. رأيت جميع الألوان بعينيك وسمعت حكاياك قبل النوم من شفتي الابنة.
لم أتذوق طعامك جدتي لكنني عرفتك دوماً. لمست طيبة قلبك وقوتك في عيني أمي اللامعتين.
وحين أرى الجدّات.. حين أشاهد الأحفاد.. يخطفني ذاك الحبل السّري الذي لا ينقطع.
أحلم بأبنائي الآتين وبجدتهم.. فهذه الأم.. حين ستصبح جدّة سيتغير كل الكون. سأغمض عينيّ وأرتاح. أعلم أن حكاياك جدتي ستسحرهم كما أدهشتني صغيرة. وقبلات أمّي ستدفئهم كما هدهدتني وأنا طفلة.
فرح برقاوي
شيكاغو، الولايات المتحدة