هل تعيدنا رسالة قصيرة مسافرة عبر العواصم إلى حيث كنا مرةً؟ تقوم بفعل آلة الزمن، فتذكرنا بما كنا وما امتلكنا من أفكار وصداقات ومشاعر. رسالة قصيرة كفيلة بأن تقلب يومنا، وتبعدنا عما نعيشه اليوم، لندرك كم ابتعدنا عن لحظاتٍ ربما كانت من أجمل ما عشناه؟
منذ ثلاثة أيام، في يوم ميلادي، وصلتني هذه الرسالة القصيرة من صديقة قديمة. كانت تهنئني بعيد ميلادي، وبعدها توالت الرسائل بيننا ثم المحادثة الإلكترونية التي حاولنا من خلالها استرجاع شيءٍ من الذكريات، وتناقل بعض الأجزاء عن الحاضر. لم تكن أول رسالة تصلني منها بعد انقطاع طويل، ربما كانت الثانية أو الثالثة. لكن هذه الرسالة تحديداً هي التي أيقظت ذاكرتي، وفتحت صندوقاً غارقاً كنت أخبئ فيه أحداثاً ومكاناً عزيزاً وثقيلاً على قلبي في آن، دير اللاتين.
*****
انتقلت إلى مدرسة دير اللاتين بعد عودتي من دمشق إلى غزة بعامٍ واحدٍ. ففي العام 1996 غادرت المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، ومن مدرسة القاهرة الابتدائية حلّقت إلى دير اللاتين. كانت خطوةً شاسعةً على طريقٍ لم تنته، فدير اللاتين في البداية مدرسةٌ خاصةٌ على عكس ما اعتدت عليه في دمشق من مدارس وكالة الغوث. ودير اللاتين في كل الأوقات ليست كأي مدرسة، وبإمكاننا –نحن من ارتدناها- أن نطلق عليها مصطلح "عالم" لأننا وحدنا من نعرفها حقاً، ووحدنا من جربنا طعم المتعة فيها خاصةً في حقبة "أبونا"* في مقر المدرسة التاريخي في غزة البلد.
هل مرت 12 سنة على ذلك اليوم؟ حين كنت أجلس في الصف السابع (ب) مرتديةً الزيّ الجديد، القميص الأبيض والجيليه والتنورة الرمادية إلى ما تحت ركبتي، أحاول الاختلاط بهؤلاء الغرباء من صبيان وفتيات، وتجلس أمامي فتاةٌ تجرّب هي الأخرى أن تتناسى حسرة رجوعها إلى غزة وفراق تلك المساحة من الكرة الأرضية التي كانت عالمها الجميل، وتحاول المضي كأنّ شيئاً لم يكن.
صديقاتنا وليس الأصدقاء، لأنني لا أذكر أنني عرفت يوماً كيف أصادق أحد زملائي الذكور، ربما لم تفهمن في البداية ما مررت به، فأغلبهنّ قد ولدن وعشن وكنّ جزءاً من غزة. لكن الأيام والأحداث قربتنا، ويمكنني أن أقول بأنني أصبحت جزءاً من مجتمع دير اللاتين بجدارة بحلول الصف الثامن (ب أيضاً).
كانت غزة ودير اللاتين وجهين لعملةٍ واحدة، وجهٌ ضاحكٌ وآخر يعبس في وجهي. ولذا انحصر عالمي الصغير داخل دير اللاتين وبنات دير اللاتين، وغدا ما هو خارج المدرسة هو نفسه ما كان في داخلها.
لكنها كانت أيضاً سنواتٍ غريبة! هل لأننا كنا مراهقاتٍ ذوات أمزجةٍ متقلبةٍ وأفكارٍ ومعتقدات في بداية التكوين؟ هل تخيّلنا كم سيلحق بصداقاتنا من ضررٍ أثناء تشكلنا الإنساني وميلاد أنوثتنا؟
البارحة وأنا أتحدث مع صديقتي الدير لاتينية القديمة، أدركت كم أننا لم نخرج سالمات! برغم الفرح، والجنون، والمتعة، والشغب الطفولي لم نخرج سالمات من دير اللاتين/المراهقة. افتكّت أيدينا المضمومة لأسباب لا أذكر أيّاً منها، ولا تذكرها، ومن تذكرها؟!! وخرجت كلٌّ من بنات المدرسة في رحلتها، دون أن تنسى هذه القطعة من روحها، هذه المرحلة التي التصقت بها وبذكرياتها لتنقلها معها حيث تذهب.
صديقتي هذه، لم أكلمها منذ سبعة أعوامٍ كانت كفيلة بأن تجعلها اليوم زوجةً وأُم. صديقتي هذه عاشت داخلي، كما كل صديقاتي، وكما حمل قلبي كل ما اختبره في دير اللاتين ورحل به خارج حدود غزة.
واليوم، وعلى بعدٍ كفيلٍ بأن ينسينا كلّ شيءٍ، سنوات من العمر وحدودٌ تفصلنا، أعود لدير اللاتين بمخيلتي، أدخل صفوفها وأسمع الجرس فيها، وأرقص الدبكة الفلسطينية على مسرحها. أراكم كلكم حولي صديقاتي.. أرى أطفالنا فيها، وأشتاق.. أكتب لهذا العالم الجميل.
دير اللاتين، الطابور الصباحي، المقالب والمخيمات الصيفية. كبرنا فيكِ، كبرنا حتى لم تتسع لنا الأرض، فكنتِ الأرض وما عليها، لكننا كلما كنا نكبر كانت توقعاتنا، أحلامنا، ومشاكلنا تكبر أيضاً. وسِعَنا قلبُكِ، لكنّ قلوبنا لم تتّسع لكلّ ما منحتنا إياه، فاختلفنا وابتعدنا. آه كم ابتعدنا!
* "أبونا"/ الأب مانويل مسلّم، راعي كنيسة دير اللاتين في ذلك الوقت.
فرح برقاوي
دبي
الثلاثاء 10/6/2008
كنت أرغب بوضع صورة لدير اللاتين، أو صورة لنا في ساحاتها، دبي جردتني من كل الصور، فلو كان لدى أحدٍ من طلابها صورة مناسبة، أرجو إرسالها لي حتى أضعها هنا.
منذ ثلاثة أيام، في يوم ميلادي، وصلتني هذه الرسالة القصيرة من صديقة قديمة. كانت تهنئني بعيد ميلادي، وبعدها توالت الرسائل بيننا ثم المحادثة الإلكترونية التي حاولنا من خلالها استرجاع شيءٍ من الذكريات، وتناقل بعض الأجزاء عن الحاضر. لم تكن أول رسالة تصلني منها بعد انقطاع طويل، ربما كانت الثانية أو الثالثة. لكن هذه الرسالة تحديداً هي التي أيقظت ذاكرتي، وفتحت صندوقاً غارقاً كنت أخبئ فيه أحداثاً ومكاناً عزيزاً وثقيلاً على قلبي في آن، دير اللاتين.
*****
انتقلت إلى مدرسة دير اللاتين بعد عودتي من دمشق إلى غزة بعامٍ واحدٍ. ففي العام 1996 غادرت المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، ومن مدرسة القاهرة الابتدائية حلّقت إلى دير اللاتين. كانت خطوةً شاسعةً على طريقٍ لم تنته، فدير اللاتين في البداية مدرسةٌ خاصةٌ على عكس ما اعتدت عليه في دمشق من مدارس وكالة الغوث. ودير اللاتين في كل الأوقات ليست كأي مدرسة، وبإمكاننا –نحن من ارتدناها- أن نطلق عليها مصطلح "عالم" لأننا وحدنا من نعرفها حقاً، ووحدنا من جربنا طعم المتعة فيها خاصةً في حقبة "أبونا"* في مقر المدرسة التاريخي في غزة البلد.
هل مرت 12 سنة على ذلك اليوم؟ حين كنت أجلس في الصف السابع (ب) مرتديةً الزيّ الجديد، القميص الأبيض والجيليه والتنورة الرمادية إلى ما تحت ركبتي، أحاول الاختلاط بهؤلاء الغرباء من صبيان وفتيات، وتجلس أمامي فتاةٌ تجرّب هي الأخرى أن تتناسى حسرة رجوعها إلى غزة وفراق تلك المساحة من الكرة الأرضية التي كانت عالمها الجميل، وتحاول المضي كأنّ شيئاً لم يكن.
صديقاتنا وليس الأصدقاء، لأنني لا أذكر أنني عرفت يوماً كيف أصادق أحد زملائي الذكور، ربما لم تفهمن في البداية ما مررت به، فأغلبهنّ قد ولدن وعشن وكنّ جزءاً من غزة. لكن الأيام والأحداث قربتنا، ويمكنني أن أقول بأنني أصبحت جزءاً من مجتمع دير اللاتين بجدارة بحلول الصف الثامن (ب أيضاً).
كانت غزة ودير اللاتين وجهين لعملةٍ واحدة، وجهٌ ضاحكٌ وآخر يعبس في وجهي. ولذا انحصر عالمي الصغير داخل دير اللاتين وبنات دير اللاتين، وغدا ما هو خارج المدرسة هو نفسه ما كان في داخلها.
لكنها كانت أيضاً سنواتٍ غريبة! هل لأننا كنا مراهقاتٍ ذوات أمزجةٍ متقلبةٍ وأفكارٍ ومعتقدات في بداية التكوين؟ هل تخيّلنا كم سيلحق بصداقاتنا من ضررٍ أثناء تشكلنا الإنساني وميلاد أنوثتنا؟
البارحة وأنا أتحدث مع صديقتي الدير لاتينية القديمة، أدركت كم أننا لم نخرج سالمات! برغم الفرح، والجنون، والمتعة، والشغب الطفولي لم نخرج سالمات من دير اللاتين/المراهقة. افتكّت أيدينا المضمومة لأسباب لا أذكر أيّاً منها، ولا تذكرها، ومن تذكرها؟!! وخرجت كلٌّ من بنات المدرسة في رحلتها، دون أن تنسى هذه القطعة من روحها، هذه المرحلة التي التصقت بها وبذكرياتها لتنقلها معها حيث تذهب.
صديقتي هذه، لم أكلمها منذ سبعة أعوامٍ كانت كفيلة بأن تجعلها اليوم زوجةً وأُم. صديقتي هذه عاشت داخلي، كما كل صديقاتي، وكما حمل قلبي كل ما اختبره في دير اللاتين ورحل به خارج حدود غزة.
واليوم، وعلى بعدٍ كفيلٍ بأن ينسينا كلّ شيءٍ، سنوات من العمر وحدودٌ تفصلنا، أعود لدير اللاتين بمخيلتي، أدخل صفوفها وأسمع الجرس فيها، وأرقص الدبكة الفلسطينية على مسرحها. أراكم كلكم حولي صديقاتي.. أرى أطفالنا فيها، وأشتاق.. أكتب لهذا العالم الجميل.
دير اللاتين، الطابور الصباحي، المقالب والمخيمات الصيفية. كبرنا فيكِ، كبرنا حتى لم تتسع لنا الأرض، فكنتِ الأرض وما عليها، لكننا كلما كنا نكبر كانت توقعاتنا، أحلامنا، ومشاكلنا تكبر أيضاً. وسِعَنا قلبُكِ، لكنّ قلوبنا لم تتّسع لكلّ ما منحتنا إياه، فاختلفنا وابتعدنا. آه كم ابتعدنا!
* "أبونا"/ الأب مانويل مسلّم، راعي كنيسة دير اللاتين في ذلك الوقت.
فرح برقاوي
دبي
الثلاثاء 10/6/2008
كنت أرغب بوضع صورة لدير اللاتين، أو صورة لنا في ساحاتها، دبي جردتني من كل الصور، فلو كان لدى أحدٍ من طلابها صورة مناسبة، أرجو إرسالها لي حتى أضعها هنا.